يُشكّل تموز نقطة فارقة في سيرة جعجع ونصرالله. في تموز 2005 خرج سمير جعجع من السجن إلى الحرية وفي تموز 2006 خرج السيد حسن نصرالله من الضوء إلى ما وراء الستار وإلى السرية المطلقة كأنه يعيش في سجن إرادي. يبدو الرجلان وكأنّهما اليوم الأكثر عرضة للتهديد. نصرالله يخشى الإغتيال بعد حرب تموز 2006، وهو طالما كان يعتبر أنّه هدف دائم لإسرائيل في ظلّ الصراع المفتوح والمستمر معها. سمير جعجع أيضاً يعيش وسط تدابير أمنية واحترازية فائقة التعقيد فرضها على نفسه بعد محاولة الإغتيال التي تعرّض لها في 4 نيسان 2012، ولكنّه يستطيع أن يخرقها بعض الأحيان.
جعجع ونصرالله والقيادة
يأتي الرجلان من موقعين وانتمائين متناقضين. كأنّهما حتى الآن لا يلتقيان ولا يمكن أن يلتقيا. مرات قليلة التقيا وجهاً لوجه في جلسات الحوار ربيع العام 2006. تلك الصور التي ظهرا فيها يتصافحان كانت الأخيرة والوحيدة التي جمعتهما. غيرها كل الصور تفرّق بينهما.
في العام 1992 بدأ نجم السيد حسن نصرالله بالصعود بينما كان نجم سمير جعجع يتعرّض لحرب التهميش والتضييق. بدا وكأنّ المطلوب أن يولد عهد جديد وأن ينطوي عهد. الحرب على «القوات اللبنانية» كان يقابلها تمهيد واسع لتسليم «حزب الله» كل مقاليد القوّة في ظلّ دولة غير قادرة على الحكم ولا يمكن أن تشكّل إلا ستاراً لـ»الدويلة» التي أقامها الحزب وتمسك بالقرار.
في سيرة الرجلين تشابه كبير في كثير من المحطات وتناقض كبير في الوقت نفسه. سبق سمير جعجع حسن نصرالله إلى العمل العسكري في «القوات اللبنانية» بحكم أنه يكبره سنّاً. نحو ثمانية أعوام تفصل بين الرجلين لمصلحة جعجع المولود عام 1952. استطاع جعجع أن يقود «القوات» وهو بعمر الثانية والثلاثين، ووصل السيد حسن نصرالله إلى الأمانة العامة لـ»حزب الله» بعمر الثانية والثلاثين. ولكنّ طريق الوصول إلى القيادة كان مختلفاً. تعمّد جعجع بتجارب عسكرية كبيرة في محطات كثيرة من الحرب قبل أن ينتقل مع بشير الجميل من «الكتائب» إلى «القوات».
كاد يستشهد في أكثر من مواجهة عسكرية من حرب شكا والكورة إلى أهدن وزحلة وحرب الجبل وحصار دير القمر. لم يكن وصوله إلى القيادة مجرّد ترقية في المناصب بل اقتناص لها. بعد اغتيال بشير الجميل كان يمكن أن تنتهي «القوات اللبنانية» كمشروع سياسي وكتنظيم عسكري. أهمية سمير جعجع بين 1982 و1986 أنه استطاع أن يعيد بناء القوات وأن يحافظ عليها وعلى استمراريتها، من انتفاضة 12 آذار 1985 إلى إسقاط الإتفاق الثلاثي في 15 كانون الثاني 1986، جعل جعجع «القوات» صاحبة القرار في تقرير مصير الوضع اللبناني وحوَّل المناطق الشرقية إلى نقطة قوّة واستقطاب كنموذج مصغّر للدولة اللبنانية التي تؤمِّن الأمن والإستقرار. بين العامين 1986 و1988 انتقلت كل البعثات الدبلوماسية إلى هذه المناطق.
في المقابل شهدت تلك الأعوام نشوء «حزب الله» منذ العام 1982 بعد إرسال الفصيل الأول من الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع. وتحوّل «الحزب» بعد ذلك إلى أن يكون أداة هذا الحرس في لبنان. تلك المرحلة شهدت أيضاً عمليات خطف الأجانب والطائرات التي اتُّهِم فيها «الحزب». بين عمليات الخطف والفرار من خطر «حزب الله»، وبين الإلتجاء إلى مناطق «القوات اللبنانية» والشرعية الرسمية، كان المشهد يختصر الواقع القائم بين وجهتين في لبنان: وجهة تأخذه إلى نظام لا يشبهه ووجهة تريد أن تحافظ عليه. وكأنّه كان المطلوب أن تُلغى واحدة من أجل أن تقوم أخرى.
إسم معروف
قبل أن يتولّى جعجع القيادة كان اسمه معروفاً ومتداولاً داخل القوات وخارجها. حسن نصرالله لم يكن كذلك. أيضاً أتى إلى «حزب الله» من حركة «أمل». أكثر ما هو متداول عنه أنه كان مقاتلاً في «الحركة» وتولّى مسؤوليات أمنية وكان له دور بارز في عدد من العمليات قبل أن يلعب دوراً رئيسيا في الحرب ضد حركة «أمل» خصوصاً في معارك أقليم التفاح وصولاً إلى الضاحية الجنوبية في المعارك بين الحزب والحركة. طريقه إلى الأمانة العامة لم يستوجب منه القيام بانتفاضات داخلية.
بعد العام 1989 وتكليف الشيخ صبحي الطفيلي تولّي منصب الأمين العام الأول العلني للحزب «بدأ الحزب» طريقاً جديداً في القيادة. العام 1990 شهد أول انقلاب داخلي في الحزب على الطفيلي، ربّما كان لنصرالله دور فيه، عندما تمّ إبعاده وتعيين السيد عباس الموسوي أميناً عاما مكانه. في 16 شباط 1992 اغتالت إسرائيل الموسوي وفي اليوم نفسه اختير السيد حسن نصرالله ليكون خلفاً له. منذ ذلك التاريخ تولّى نصرالله قيادة «الحزب» بقبضة حديدية من دون أن ينازعه أحد على القيادة في ظلّ نظام داخلي مقفل ومراقب من سلطة ولاية الفقيه في إيران التي يؤمن بها الحزب ويتبع لها وتتناقض مع هوية الكيان اللبناني التي تؤمن بها «القوات اللبنانية» وسمير جعجع.
جعجع في السجن
ونصرالله في القيادةالتناقض بين نصرالله و»حزب الله» وجعجع و»القوات» بدأ أيضاً منذ اتفاق الطائف. كانت «القوات» مع هذا الإتفاق وكان «حزب الله» ضدّه. لم يكن ضدّه لأنّه اتفاق الطائف كنص وكلمات فقط، بل لأن نظرته إلى الدولة اللبنانية كانت مختلفة. فهو يسعى ويعمل ليكون لبنان جزءاً من الأمة الإسلامية التي بدأت طلائعها في إيران مع الإمام آية الله الخميني. هذا التناقض كان يكفي لكي يكون الحزب على تناقض كامل مع «القوات».
بعد العام 1990 استطاع «الحزب» أن يختصر كل الحركات المناوئة له في الصف الآخر وفي بيئته، خصوصاً حركة «أمل»، ليتحوّل القوة الأساسية الصاعدة عسكرياً وسياسياً في ظل عهد الوصاية السورية. فقد احتفظ بسلاحه بعد حل الميليشيات وتسليم أسلحتها كما فعلت «القوات». وأمّنت له أجهزة الأمن السورية واللبنانية في تلك الحقبة مقوّمات تأمين زيادة تسليحه من خلال العمليات التي كان ينفذها ضد القوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي في الشريط الحدودي.
مرحلة صعوده الكثيف هذه كانت تشهد في المقابل تكثيف الحرب المعاكسة ضد «القوات» لإخراجها من المشهد السياسي وصولاً لاعتقال قائدها سمير جعجع في 21 نيسان 1994. صحيح أنّ اعتقاله جاء بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في 27 شباط من ذلك العام وبعد قرار حل حزب «القوات»، ولكن الصحيح أيضاً أنّ المؤامرة التي تعرّضت لها «القوات» كانت بمشاركة من أجهزة عهد الوصاية ومن «حزب الله».
بين تموز 2005 وتموز 2006
كان من المفترض أن تنتهي «القوات» مع الإنتهاء من سمير جعجع وإدخاله السجن. ولكن 11 عاماً في الإعتقال لم تكن إلا محطة من أجل بداية جديدة لجعجع ولـ»القوات». في 26 تموز 2005 خرج سمير جعجع إلى الحرية. كان عليه أن يبقى أياماً في الإعتقال الطوعي لأسباب أمنية ريثما تتأمّن ظروف خروجه الموقت من لبنان وعودته إليه واختيار مقرّ جديد لإقامته ولـ»القوات»، لكي يتسنّى له استعادة دوره السياسي.
خروج جعجع من الإعتقال لم يكن خبراً جيّداً بالنسبة إلى «حزب الله» والسيد حسن نصرالله الذي كان يعاني من انكفاء في الدور المحلي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وبعد فشله في منع انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد مظاهرته في 8 آذار. هذا الإنسحاب أصبح أمراً واقعاً في 26 نيسان 2005 بعد ثورة 14 آذار المعاكسة التي كانت «القوات اللبنانية» في قلبها وصلبها. في ظل الإنسداد السياسي وبعد نجاح قوى 14 آذار بالحصول على الأكثرية النيابية في انتخابات العام 2005، وبعد تشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي شارك فيها «حزب الله» من دون شرط الحصول على الثلث المعطل، دعا الرئيس نبيه بري إلى مؤتمر حوار وطني في مجلس النواب مطلع العام 2006.
هناك التقى سمير جعجع وحسن نصرالله. تصافحا ولكنّهما بقيا ينتميان إلى عالمين متناقضين لا يلتقيان. وجد نصرالله نفسه في مواجهة رجل اعتقد أنه انتهى أو تخلّص منه ومن حزبه. ووجد جعجع نفسه في مواجهة رجل يعتبر أنّ دوره لا يمكن أن ينازعه عليه أحد ويمكنه أن يزيل من أمامه اي عقبة يمكن أن تعترضه بتكليف شرعي لا يمكن محاكمته أو محاسبته عليه.
بين معراب وحارة حريك
خروج جعجع من الإعتقال وعودته إلى دوره السياسي وتحالفاته كان نتيجة طبيعية لنضال «القوات اللبنانية» وبقائها في موقعها الصحيح. لم يكن مقدّراً أن يكون خروجه بهذا الشكل سابقاً لخروج نصرالله من العلنية إلى السرية بعد حرب تموز 2006. التناقض بين الحزبين والموقفين والرجلين كان واضحاً وبائناً حول كل ما يتعلّق بالكيان اللبناني ومصير الدولة والجمهورية. كأنّهما نقيضان. وكأنّ «حزب الله» ما كان ينتظر أن تعود «القوات اللبنانية» ولا سمير جعجع إلى الحياة وإلى لعب أي دور سياسي.
كل استراتيجية الحزب تقريبا تُبنى على عدم إعطاء إي فوز أو تقدّم أو ربح لـ»القوات». في تفاهمه مع «التيار الوطني الحر» وفي معاركه الإنتخابية والسياسية، يبقى هذا هو هدفه الأوّل. ليربح من يربح المهم ألا تربح «القوات». ولكن في الواقع لا تكون هذه هي النتيجة دائماً. تستفيد القوات من حرب «حزب الله» ضدّها لأن الصورة تبدو منقسمة بين تيارين: واحد يمثله «حزب الله» يعبّر عن سطوة الدويلة على الدولة وقد أوصل البلد إلى الإنهيار ولا يزال يتمسك بدوره وبسلطته حتى ما بعد الإنهيار، وواحد تعبّر عنه «القوات» ويتعلّق باستعادة منطق الدولة والجمهورية المستقلة والقرار الحر. بطبيعة الحال يكثر مؤيّدو الطرح الثاني تلقائياً.
من معراب التي لا يغادرها جعجع إلا نادراً إلى حارة حريك التي يتحصّن فيها نصرالله تحت الأرض وربّما فوقها، مسافات لا تقاس بالأمتار ولا يمكن أن يجتازها أي منهما. آخر مرة هدّد نصرالله جعجع بأن لديه مئة ألف مقاتل. كان ذلك بعد حادث الطيونة في 14 تشرين الأول 2021. ولكن جعجع لم يخف من التهديد. يبدو أنّ الحذر متبادل والزمن طويل.