إذا كان خصمك ينتصر في ميدان الحق، حاربه بالشائعات. جرياً على هذا المنهاج تم توليف النظرية الحاذقة التي تتوخى إلصاق الفدرالية بـ”حزب الله” وبكونها تخدم مصالحه، حيث يساق الزعم كونه يحركها تحقيقاً لمصالحه وتسييراً لأجنداته غير البريئة. وقد انبرى الكثيرون للترويج لهذه النظرية وقد سكبت المحابر الغليظة خدمة لها، فإنّ النهج الأصوب لمقاربتها وتبيان خلاصاتها، بعيداً عن الصياغات البلاغية والتراشقات الزجلية، هو عبر إزالة الطبقات القشرية وسبر غور المصدر الأساس وصولاً حتى تفنيد موقف “حزب الله” بالذات من خلال بحث ركائز أساسية ثلاث، وهي العقيدة والسياسة والمصلحة.
يوم السادس عشر من شهر شباط من العام 1985 أطل السيد إبراهيم أمين السيد على العالم من حسينية الشياح، وأطلق دستور “حزب الله” تحت عنوان الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين في لبنان والعالم حيث دعا للخروج من النظام الطائفي ودعا لإقامة الدولة على أساس الشريعة الإسلامية فتحكم بالعدل بين جميع الناس، إذ يرد حرفياً في العقيدة التأسيسية لـ”حزب الله” أنّ “كل طرح للإصلاح السياسي على ضوء النظام الطائفي العفن لا يعنينا فيه شيء”، ثم يرد في مكان لاحق بكونه “قد أثبتت المحنة اللبنانية أنّ الامتيازات الطائفية كانت سبباً رئيسياً من أسباب الانفجار الكبير الذي قوض البلاد”، ويتوسع عبر الإشارة إلى أنّ “الأوان قد آن ليخرج المسيحيون المتعصبون من نفق الولاء الطائفي ومن أوهام الاستئثار بالامتيازات على حساب الآخرين، وأن يستجيبوا لدعوة السماء فيحتكموا إلى العقل بدل السلاح وإلى القناعة بدل الطائفة”. وهنا ينتقل لتوجيه الكلام المباشر منادياً “يا مسيحيي لبنان، إن كان كبر عليكم أن يشارككم المسلمون في بعض شؤون الحكم. فإنه والله كبر علينا ذلك أيضاً؛ لأنهم يشاركون في حكم ظالم لنا ولكم، وغير قائم على أحكام الدين ولا أسس الشريعة التي اكتملت بخاتم النبيين”، وإذ يستطرق في التوكيد ويختم تصاعد خطابه عبر الدعوة “أيها المسيحيون، حرروا أفكاركم من رواسب الطائفية البغيضة، وجردوا عقولكم من أسر التعصب والانغلاق، وافتحوا بصائركم على ما ندعوكم إليه من الإسلام؛ ففيه نجاتكم وسعادتكم وخير الدنيا والآخرة”.
وبذلك تكون الفدرالية هي عين اللعنات التي يجاهد “حزب الله” لفقئها، كونها تطرح بناء الدولة على أساس التعددية الطائفية وتكوينها وفق بنيان إتحادي بين الجماعات وأقاليمها الجغرافية، فيحل الحكم الجماعي والعدالة والمساواة بين المكونات، بدل الحكم الأحادي المركزي الممسوك بعقيدة واحدة وسلطان أوحد.
ولعلّ ما ورد في دستور “حزب الله” لا يخرج في جوهره عن كونه رجع الصدى للثوابت التي أرساها الإمام موسى الصدر، إذ بالرغم من رفضه لولاية الفقيه إلا أنّ أحداً لا يدنو إلى مرتبته كزعيم للصحوة الدينية والعسكرية للشيعة في لبنان، فهو كان ثابتاً على رفض صيغة النظام الطائفي، وكما كان راسخاً على انتهار العلمنة، في مقابل تبنيه لمفهوم “الدولة المؤمنة” بحسب تعبيره، التي تقوم على الديمقراطية العددية وعلى استلهام أحكام الدين في دستورها وقوانينها. اذ صرح حرفياً بتاريخ 4/1/1977 “نريد لبنان الواحد، لا نظام كانتونات، ولا فدراليّة، ولا كونفيدراليّة، نحن نعتبر أنّ التعايش من أغلى ما في لبنان”. وبالمقام ذاته كان مواظباً على توجيه الهجوم اللاذع بحق كمال جنبلاط متهماً إياه بإنشاء دويلة درزية في الشوف كي يستعيد حلم الإمارة الغابرة، بالتساوي مع هجومه على اليمين المسيحي من هذه الزاوية.
أما الوثيقة السياسية التي تلاها الأمين العام لـ”حزب الله” بتاريخ 30/11/2009، فهي كناية عن بلورة لعقيدة “حزب الله” على ضوء المتغيرات السياسية من دون أن تمس بجوهر ما ورد في العام 1985 الذي يبقى راسخاً ثابتاً من دون تبديل أو تعديل، وقد أكد على ذلك الشيخ نعيم قاسم في مقابلة مع “المؤسسة اللبنانية للإرسال” بتاريخ 22/6/2020. فهي واضحة وضوح الشمس في رفض الفدرالية حيث أشارت إليها بالحرف من خلال قولها “نريده (أي لبنان) واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو “الفدرلة” الصريحة أو المقنَّعة”، وحيث يرد في البند -15- من مبادئ الدولة التي يتطلع “حزب الله” الى المشاركة في بنائها مع بقية اللبنانيين بأن تتأطر ضمن صيغة “الدولة التي تعتمد نظاماً إدارياً لامركزياً يعطي سلطات إداريةً واسعةً للوحدات الإدارية المختلفة (محافظة/ قضاء/ بلدية)، بهدف تعزيز فرص التنمية وتسهيل شؤون ومعاملات المواطنين، من دون السماح بتحوّل هذه اللامركزية الإدارية الى نوع من “الفدرلة” لاحقاً”… ويتابع في شق عرضه للنظام السياسي الذي يطرحه فيعلن أنّ “المشكلة الأساسية في النظام السياسي اللبناني، والتي تمنع إصلاحه وتطويره وتحديثه بشكل مستمر هي الطائفية السياسية” ويستنتح بناء عليه أنّ “الشرط الأساس لتطبيق ديمقراطية حقيقية من هذا النوع هو إلغاء الطائفية السياسية من النظام، وهو ما نص “اتفاق الطائف” على وجوب تشكيل هيئة وطنية عليا لإنجازه”.