لم يكن حدثاً عادياً ما حصل في 26 أبريل (نيسان) 2005، في ذلك اليوم غادر آخر جندي مع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري الأراضي اللبنانية. ذلك النظام الذي أخضع لبنان لوصايته على امتداد 29 عاماً، حيث دخل البلد في يونيو (حزيران) 1976، بعد نشوب الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989). كان الهدف المعلن هو إنهاء الحرب اللبنانية، لكن الحرب انتهت وبقي “النظام”. وقيادة “البعث” في سوريا والتي لطالما رددت أن “وجودنا في لبنان، شرعي وضروري وموقت”، تغلغلت في كل مفاصل الدولة الأمنية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، متدخلة في أصغر التفاصيل إلى القرارات السيادية، حتى بات “النظام” يقرر مصير السياسيين، ووصولهم إلى سدة الحكم، وإلى التعيينات الوظيفية والحكومية واختيار لوائح النواب، وما إلى هنالك من تشعبات فرضها “الاحتلال السوري” كما يسميه الكثير من اللبنانيين. ذلك “الاحتلال”، أنهى تواجده الأمني والعسكري مع اندلاع “ثورة الأرز” المليونية والتي ضمت كامل أطياف الشعب اللبناني، وذلك على إثر اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005.
الجدير ذكره هنا، أنه وبعد مغادرة آخر جندي سوري الأراضي اللبنانية، توجه بعض الشباب والذي كانوا ينتمون للتيار “الوطني الحر” إلى منطقة نهر الكلب (شرق بيروت) حيث يوجد لوحة جلاء الفرنسيين عن لبنان، ورفعوا لوحة صخرية حفر عليها “في مثل هذا اليوم تم جلاء آخر جندي من الاحتلال السوري من الأراضي اللبنانية”، في إشارة إلى أن لبنان نال استقلاله الثاني. أيضاً عند نقطة المصنع أي الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا، وقف بعض الشبان البقاعيين وكسروا جراراً فخارية بعد مغادرة سيارة المخابرات السورية والتي كانت تضم رستم غزالي هاتفين “روحة بلا رجعة”.
“ثورة الأرز”
اغتيل رفيق الحريري في 14 فبراير مع 21 شخصاً آخرين، بعد انفجار 1800 كيلوغرام من مادة “تي إن تي” في موكبه، عند مروره في منطقة عين المريسة (غرب بيروت) وكان مغادراً مجلس النواب. وجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى النظام السوري وحلفائه في لبنان، لأن ذلك النظام كان مطلعاً على كافة تفاصيل الأمن في لبنان، حيث إن اللبنانيين كانوا يتندرون في ما بينهم قائلين إنه “لا يمكن لذبابة أن تتحرك من دون علم غازي كنعان” ولاحقاً رستم غزالة. والرجلان استلما قيادة الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان بمراحل مختلفة.
على إثر ذلك خرج آلاف اللبنانيين وبطريقة عفوية إلى شوارع العاصمة بيروت، مرددين شعار “حرية، سيادة، استقلال”، ما دفع لتشكيل تحالف سياسي من كبار الأحزاب اللبنانية، عرف بتحالف قوى “14 آذار”، والذي طالب بخروج الجيش السوري ومنظومته الأمنية، وتمثلت أبرز أهدافه في إقامة محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري والدفع باتجاه تطبيق القرار الأممي 1559. لكن هذا التحالف وجه بمعارضة شديدة، من تحالف آخر تكون من الأحزاب الموالية أو الحليفة لنظام دمشق، وعلى رأسها “حزب الله” وحركة “أمل”، الذي خرج مدافعاً عن سوريا ونظامها، وعرف بتحالف “8 آذار”. بعد ذلك ونتيجة للضغوط الدولية أعلن رئيس النظام السوري بشار الأسد، وفي شهر مارس (آذار) من ذلك العام عبر خطاب مطول أمام البرلمان عن “انسحاب قريب لقواته” من لبنان، وقال إنه يجب ألا تبقى قواته هناك يوماً واحداً إذا كان هناك إجماع لبناني على رحيلها، ولكنه اعتبر حينها أن الانسحاب لا يعني نهاية للدور السوري في لبنان.
واليوم وبعد مرور 19 عاماً على رحيل الجيش السوري من الأراضي اللبنانية، ماذا تغير في لبنان، وكيف استثمر ذلك الانسحاب؟ وهل انتهت الوصاية السورية بالفعل، أم أنها بقيت عبر حلفائها والجماعات التي لا تزال على ولائها للنظام في دمشق؟
“حزب الله” بنى سلطته على “ممارسات النظام السوري”
يقول الإعلامي والأستاذ في الدبلوماسية والعلاقات الدولية، يقظان التقي، في حديث مع “اندبندنت عربية”، إنه “كان يمكن الاسترشاد بفكرة وفلسفة سمير فرنجية التي كانت تقوم على الجمع بين ذكرى الاستقلال الثاني وذكرى تحرير الجنوب عام 2000، وأن يأتي (حزب الله) إلى الدولة اللبنانية بشروط الدولة، وعلى أساس أن الحرب من زمن مضى وانتهى. لم يحدث ذلك وأنجز الاستقلال الثاني في انتفاضة (14 آذار)، ورفض الحزب التسليم بشروط الدولة، وحدث الفصام، والتناقض. طرحت (14 آذار) شعار العبور إلى الدولة نظرياً، فيما ذهب قادتها كل إلى مربعه وجزيرته في عصر من النرجسيات السياسية، ولم تبادر إلى إصلاح أهم جهاز لبناء الدولة، أي إعادة هيكلية الجهاز القضائي والأمني، وإفراغه من بقايا مخابرات النظام السوري، وحتى لم تبادر إلى طلب جلاء مواقع الجبهة الشعبية من البقاع، وهي مراكز أمنية يستخدمها النظام السوري لإثارة المشاكل غب الطلب. وها نحن نعاني من فلتان فصائلي من جديد”.
وأضاف “(حزب الله) من الذكاء أن بنى سلطته على ممارسات وسلوكيات النظام السوري، وأضاف إليها خبراته بالشأن الداخلي، وبالاستقراء والترهيب والترغيب. ففقدت (14 آذار) وحدتها وغابت الذكرى في غياهب الأجندات الفرعية واللامركزية لحساب كونفدراليات مذهبية”. ويتابع الأكاديمي قائلاً “ليس نسف استحقاق البلديات والرئاسة وتشكيل حكومة إلا تعبير عن رغبة الجميع بالعمل بفيدرالياته الذاتية، مع أجواء عمل المنظمات غير الحكومية في خدمة أجنداته. ويردف قائلاً “للأسف خسر لبنان انتفاضة الاستقلال، وخسر نتائج حرب التحرير وهو الآن يسير نحو الانهيار التام، وفي مستنقع الحرب والأزمات التي تجتاح كل شيء، والمعارضة في البرلمان لا تمثل جديداً يذكر، ومعارضة الشارع أخفقت لعوامل عديدة”.