أدت التوترات الأخيرة التي شهدتها المنطقة الحدودية ما بين لبنان وإسرائيل إلى إعادة طرح ملف ترسيم الحدود البرية فيما بينهما، والتي كانت عملية مؤجلة في اعتبار الطرفين بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بوساطة ورعاية من الولايات المتحدة الأميركية في 27 أكتوبر 2022، عقب مفاوضات طويلة امتد على سنوات.
وكانت الحدود بين الجانبين قد شهدت خلال الفترة الماضية توترات بارزة لم تصل إلى حد تسجيل أي اشتباك متبادل، لاسيما بين الجيش الإسرائيلي وعناصر “حزب الله”، وذلك إثر توغلات متبادلة بين الطرفين في مناطق حدودية متنازع عليها.
وكان الجيش الإسرائيلي قد انتشر في بلدة الغجر الحدودية التي تقع عند المثلث الحدودي ما بين سوريا ولبنان وإسرائيل، وبدأ بتشييد جدار إسمنتي وحواجز شائكة في القسم الذي يعتبره لبنان جزءاً من أراضيه المحتلة في البلدة.
هذا التطور رد عليه “حزب الله” عبر إقامة خيمتين عسكريتين داخل منطقة كفرشوبا المتنازع عليها هي الأخرى، والتي يعتبرها لبنان أيضاً من ضمن أراضيه، فيما اعتبرها الجانب الإسرائيلي داخل حدوده مطالباً بإزالتها، ومهدداً بتدخل عسكري في سبيل ذلك.
وعلى إثر ذلك سجل حراك أممي ودولي على هذا الملف، تمثل في لقاءات حصلت مع الجانب اللبناني من قبل كل من قائد قوات اليونيفيل الجنرال أرولدو لازارو الذي التقى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي على هامش المباحثات الأممية حول تمديد مهمة القوات الدولية في لبنان، إضافة إلى لقاء آخر سجل ما بين وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب والمنسقة الخاصة للأمم المتّحدة في لبنان يوانا فرونيتسكا والسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، جرى خلاله التباحث في التوترات الحدودية مع إسرائيل.
لبنان يعرض الترسيم “جدياً”
وأعلنت وزارة الخارجية اللبنانية أن البحث خلال اللقاء شمل السبل الآيلة لوقف عملية قضم الأراضي اللبنانية المحتلة في الجزء الشمالي من بلدة الغجر، وتمّ إبلاغ الطرفين بأنّ لبنان سيتقدّم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي لإزالة هذا الخرق وانسحاب إسرائيل من هذه المنطقة.
وبشأن خيم حزب الله، شدد بو حبيب على أهميّة استكمال عمليّة ترسيم الحدود البرية، والبحث في كيفية معالجة النقاط الخلافية المتحفّظ عليها المتبقية ضمن إطار الاجتماعات الثلاثية، بما يعزّز الهدوء والاستقرار على الحدود، ويتوافق مع قرارات الأمم المتّحدة.
بعد ذلك أعلن رئيس الحكومة اللبنانية في تصريحات صحفية أن بلاده أبلغت الأمم المتحدة استعدادها لترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل على طول “الخط الأزرق”، مشددا على أن لبنان يعد بلدة الغجر تابعة له باعتراف الأمم المتحدة، مؤكداً على سعي بلاده لحل قضية خيمة حزب الله على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل “دبلوماسياً”.
إلا أن التوترات بلغت بالأمس، بالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة عشر لاندلاع “حرب تموز” التي تعتبر من آخر الحروب العسكرية التي حصلت بين الطرفين عام 2006، مرحلة متقدمة بعدما أعلن الجيش الإسرائيلي عن إحباط محاولة تخريب سياج حدودي مع لبنان.
وذكرت الإذاعة العامة الإسرائيلية (كان) أن مجموعة من رجال حزب الله أشعلوا النار على الحدود وفجروا ألغاما أرضية، مضيفة أن القوات الإسرائيلية أطلقت طلقات تحذيرية خلال الواقعة، فيما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه رصد المشتبه بهم مباشرة واستخدم وسائل “غير قاتلة” لإبعادهم.
ونقلت وكالة رويترز عن مصدر أمني مطلع القول إن عدة أعضاء في جماعة حزب الله اللبنانية أصيبوا على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل.
تزامن ذلك مع وصول كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الطاقة عاموس هوكستين إلى إسرائيل، الثلاثاء، في زيارة التقى خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتانياهو وجرى خلالها التباحث في العديد من الملفات من بينها التوتر على الحدود مع لبنان، وقضية خيم حزب الله، فيما لم يعلن تفاصيل أكثر عن هذه المناقشات وفق ما أكدت صحيفة “يسرائيل هيوم”.
زيارة هوكستين إلى المنطقة المسبوقة بالتصريحات الرسمية اللبنانية، سلطت المزيد من الأضواء على مسعى ترسيم الحدود ومنحته بعداً أكثر جدية، لاسيما وأن اسم هوكستين ارتبط بشكل مباشر بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ونجاحها، إلى حد وصفه بأنه “عراب الاتفاق”.
وتحدثت تقارير إعلامية لبنانية عن استعدادات رسمية لبدء المفاوضات الحدودية، فبحسب صحيفة “نداء الوطن” اللبنانية، باشرت قيادة الجيش اللبناني تحضير ملفات الحدود البرية القديم منها والجديد مع التدقيق فيها كي تكون حاضرة عندما يأتي الوقت المناسب لانطلاق ورشة إعادة الترسيم البرية على الحدود الجنوبية مع إسرائيل.
إلا أنه وعلى الرغم من “الجدية” التي يبديها الطرف اللبناني، والتي عبر عنها وزير الخارجية في تصريحات صحفية لناحية طرح الترسيم البري للحدود، باعتباره “حلا لمختلف الإشكالات على الحدود”، وفق بو حبيب، لا يبدو أن إسرائيل تسجيل حماسة موازية من جانبها.
حيث أكدت مصادر إسرائيلية رسمية لموقع “الحرة” أنه “لا يوجد مفاوضات مع لبنان الذي لا يعترف بدولة إسرائيل، وبالتالي لن نتفاوض معه لا الآن ولا في المستقبل.”
وردا على سؤال حول وجود نية بإجراء مفاوضات، قال المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية ليور حياة، لموقع “الحرة”، إن “حزب الله منظمة إرهابية بنت خيمة على الجانب الإسرائيلي من الحدود”، مشيرا إلى أنه “يتم التواصل مع القوات الدولية ودول عدة لمعالجة هذا الأمر”، رافضا الدخول في المزيد من التفاصيل.
نقاط الخلاف الحدودية
وزير الخارجية اللبناني لفت في تصريحاته إلى وجود 13 نقطة خلافية على الحدود مع إسرائيل، “7 منها هناك اتفاق عليها و6 تشكّل مادة خلاف”، وفق تعبيره.
نقاط يشرحها العميد المتقاعد في الجيش اللبناني بسام ياسين، الذي سبق أن ترأس للوفد التقني العسكري اللبناني الذي فاوض حول الحدود البحرية، بحيث تمتد هذه النقاط على كامل الحدود اللبنانية الإسرائيلية من البحر وصولاً إلى بلدة الغجر شرقاً على الحدود مع سوريا.
ويضيف ياسين في حديثه لموقع “الحرة” أن ما يسمى بنقاط هي عبارة عن بقع جغرافية، أهمهم نقطة b1 الساحلية في منطقة رأس الناقورة على الساحل، والتي سبق لها أن سببت الخلاف الرئيسي ما بين لبنان وإسرائيل خلال ترسيم الحدود البحرية، حيث كان يطالب لبنان باعتبارها منطلقاً برياً لترسيم حدوده البحرية، وسط رفض من الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على تلك المنطقة الحدودية ويعتبرها جزءا من أراضيه.
وبحسب ياسين “الاتفاق الذي حصل على ترسيم الحدود البحرية، أبقى نقطة b1 قضية معلقة لحين الاتفاق عليها، فيما بقية النقاط الـ 12 تمتد على كامل الشريط الحدودي، بعضها بقع صغيرة والخلاف عليها لا يتعدى الأمتار المعدودة، وبقع أخرى تصل إلى 2000 و3000 متر مربع وهناك بقعة تصل مساحتها إلى 18 ألف متر مربع، وهذه النقاط لا تشمل قرية الغجر ومزارع شبعا.
يرفض ياسين تسمية العملية بـ “ترسيم الحدود البرية” ويشدد على أنها “تثبيت للنقاط الحدودية”، وذلك على اعتبار أن الحدود البرية “معروفة ومثبتة ومرسمة أصلاً” وفقاً لاتفاقيات دولية موقعة عامي 1923 (اتفاق ترسيم الحدود النهائي بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني المعروف باتفاق “بوليه – نيوكومب”) و1949 (اتفاقية هدنة لبنانية ــ إسرائيلية صادقت عليها الأمم المتحدة)، والإحداثيات موجودة وموقع عليها من قبل الطرفين ويكفي أن يتم تثبيت هذه النقاط وفق ما هي على الخريطة.
ويشرح العميد المتقاعد أن ما جرى بعد العام 2000 (انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان) و2006 (عقب حرب تموز) أن هناك نقاط تقدمت فيها إسرائيل إلى الجانب اللبناني وبقيت فيها، كذلك الأمر تقدم لبنان في نقاط حدودية معينة ولا يزال، وبالنتيجة تم إنشاء “الخط الأزرق” الذي يمثل خط انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، وتعلقت هذه النقاط نتيجة الاستعجال لإعلان الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 ووقف إطلاق النار عام 2006، وهذه النقاط هي مصدر الخلاف اليوم.
يذكر أن الخط الأزرق، أو خط الانسحاب، هو خط يبلغ طوله 120 كم، وضعته الأمم المتحدة لتأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية، وبحسب الأمم المتحدة لا يعتبر هذا الخط حدوداً دولية برية بين الجانبين.
وتتوزع النقاط الـ 13 على طول الحدود كالتالي: الأولى في رأس الناقورة، والمعروفة بالنقطة B1، ثلاث نقاط في بلدة علما الشعب، نقطة في كل من البلدات الحدودية التالية “البستان، مروحين، رميش، مارون الراس، بليدا، ميس الجبل، العديسة، كفركلا وصولاً إلى الوزاني”.
تتفاوت مساحة هذه النقاط وأكبرها في بلدات رميش والعديسة والوزاني، فيما يعتبر لبنان أن لديه بالإجمال مساحة 485039 متر مربع، مقتطعة من أراضيه.
عقبات جغرافية وديموغرافية
ويحذر ياسين من اقتراح مطروح يقضي بتبادل الأراضي بين الجانبين، مؤكداً أن في ذلك “مشكلة كبيرة”، فوفقاً للدستور اللبناني “ممنوع التخلي عن أي مساحة أرض لبنانية، ويعتبر ذلك خيانة، ومخالفة للدستور”، مؤكداً على أن أكثر النقاط أهمية بالنسبة إلى لبنان هي نقطة B1 بكونها منطلق الحدود البحرية.
ولهذه النقطة أهمية جغرافية وعسكرية بالنسبة للطرفين حيث تمثل مرتفعاً أرضياً يشرف على مساحات واسعة من الجانبين، لاسيما من الجانب الإسرائيلي حيث تؤمن إشرافا نظريا واسعا يصل إلى مدينة حيفا، وهو ما يجعل إسرائيل تتمسك بها، فيما يطالب لبنان بالسيادة عليها كجزء من أراضيه.
وعلى الرغم من أن الجانب اللبناني يطرح ترسيم الحدود من منطلق إنهاء التوترات الحدودية القائمة، يؤكد ياسين أن البحث الحالي في الحدود البرية لا يصل إلى مناطق تلال كفرشوبا وبلدة الغجر ومزارع شبعا، ما يعني أن أسباب التوتر القائمة حالياً على الحدود والواقعة في تلك المناطق لن تكون مشمولة بأي مفاوضات، إذ تتطلب إدخال الجانب السوري فيها لإقامة اتفاق ثلاثي لتحديد الحدود في تلك المنطقة.
ويضيف مذكراً بعقبة أخرى تتمثل في أن سكان بلدة الغجر على الجانب اللبناني، يرفضون الانضمام إلى لبنان، “وهنا يجب حل هذه القضية أيضاً فالأرض لبنانية لا يمكن التخلي عنها لأن سكانها يرفضون الانضمام”، مشيراً إلى أن “الخيار قد يكون في ترحيلهم إلى حيث يريدون الانتماء.”