عيْناً على دويّ القذائف وأزيز الرصاص في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا الذي انفجر بتوقيتٍ «حمّال أوجه»، وعيْناً على «الطنّة والرنّة» في «زفة وداعِ» حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي غادر منصبه بعد 30 عاماً «بالتمام والكمال».
هكذا بدا المشهد أمس في بيروت التي رصدتْ بقلقٍ كبير مجريات «عاصفة النار» في عين الحلوة بين حركة «فتح» ومجموعات من الإسلاميين (أبرزها «جند الشام») والتي ناهزت حصيلتها الدموية 11 قتيلاً و50 جريحاً (حتى اولى ساعات بعد الظهر) وسابقتْ محاولاتٍ على مدار الساعة لإطفائها قبل أن تحرق «خطوطاً حمر» في الواقع الفلسطيني كما اللبناني، وذلك فيما كان «الرحيل الهادئ» لسلامة عن البنك المركزي ينطبع بأمريْن:
* أولهما «سلاسة» انتقالِ صلاحياته إلى نائبه الأول وسيم منصوري (الشيعي) الذي يباشر مهماته بالوكالة اليوم بعدما طُويت بالكامل صفحة استقالته ونواب الحاكم الثلاثة الآخَرين.
* والثاني الاحتفاليةُ في مقر الحاكمية التي أقامتْها نقابة الموظفين لمَن أمْسك بـ «كرة النار» النقدية في أعقاب انتهاء الحرب الأهلية وأرسى مساراً من استقرارٍ لليرة سرعان ما عاكستْه أعاصير السياسة والأمن ولا سيما منذ 2005 وتَكَشَّف عن استراتيجياتٍ وهندساتٍ، بعضها قسري أمْلته ضروراتُ احتواء الهبّات الساخنة من كل حدب وصوب، وبعضها الآخَر عبّر عن إفراطٍ في انكشاف «المركزي» كما مجمل القطاع المصرفي على ديون الدولة إلى أن كان الانهيار الكبير.
وفيما كان سلامة يسلّم مفاتيح «خزنة أسرار» نقدية – مالية – سياسية تختزل 3 عقود من عمرِ بلدٍ لا يمكن فصْل الانهيار الشامل الذي أصابه منذ 2020 عن مجرياتِ «الحروب الباردة» (في السياسة) كما «بالحديد والنار» التي طبعت الواقع اللبناني خصوصاً في الأعوام الـ 18 الأخيرة حيث استعر الصراع حول التموْضع الاستراتيجي لـ «بلاد الأرز» التي «زحلت» تباعاً عن الحضن العربي، فإن أحداً لم يكن بإمكانه الجزم بما إذا كان المتقاتلون في عين الحلوة سيسلّمون بخلاصات اجتماعاتٍ مكثفة أفضت الى إرساء اتفاقٍ على مسألتين:
* الأولى وقف إطلاق النار وسحْب المسلحين من الشوارع قبل أن تخرج الأمور بالكامل عن السيطرة وتنفتح على سيناريواتٍ بالغة الخطورة انطوتْ عليها المقارباتُ المتعدّدة لـ «سرّ» التهاب الوضع الأمني في عين الحلوة والتي عكستْ وجود «أجندات» خفية متضاربة قد يكون أحدها وراء «الضغط على زرّ تفجيرٍ» يُخشى أن يكون من الصعب معاودة ضبْطه على وضعية التهدئة قبل… تحقيق أهدافه.
* والثانية تَفاهُم على ضرورة تشكيل لجنة تحقيق لتسليم مرتكبي جريمة اغتيال رأس الهرم الأمني في المخيم (قائد قوات الأمن الوطني في صيدا) العميد محمد العرموشي ومرافقيه الأربعة (الأحد) في مكمنٍ فجّر مواجهاتٍ ضارية شكّل شرارتها الأولى مقتل شابٍ كان برفقة الناشط الإسلامي الملقب بـ «أبو قتادة» الذي تعرّض لإطلاق نار (السبت) من أحد الأشخاص الملقب بـ «الصومالي».
وعزّزتْ «المعاندةُ» غير المفهومة لسريانِ وقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه بعد لقاء موسع دعا إليه رئيس «التنظيم الشعبي الناصري» النائب أسامة سعد في مقر اللجنة المركزية للتنظيم، وحضره ممثلون لـ «حزب الله» و«حركة أمل» و«الجماعة الإسلامية» وأمين سر «منظمة التحرير» وحركة «فتح» فتحي أبو العردات وممثلون للأحزاب والفصائل الفلسطينية، المَخاوف من شيء ما يُعدّ انطلاقاً من المخيم الأكبر في لبنان، ربما تكون «وُجْهته» الملف الفلسطيني بتعقيداته العميقة «الذاتية» كما تلك المتصلة بالصراع مع اسرائيل، ولكنه بالتأكيد سيترك ارتداداتٍ على واقع «بلاد الأرز» التي لا ينقصها دخول العنصر الأمني على أزماتها الرئاسية والمالية في مرحلة انتقاليةٍ بالغة الدقة، ولا استحضار عناوين خلافية مثل نزْع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها والذي عاد تلقائياً إلى الواجهة في ضوء الأبعاد الخطيرة للمواجهات وتعبيراتها عن استباحةٍ نافرة لأمن لبنان وسيادة الدولة على أرضها.
ورأت أوساطٌ مطلعة أنه بحال لم يكن تم بحلول اليوم إعادة تبريد الوضع في عين الحلوة فإن ذلك سيكون مؤشراً إلى صحّة إحدى القراءتين اللتين وضعتا «اندفاعة النار» في إطار واحد من أمرين:
* الأوّل محاولةُ الالتفاف على مَهمة مصر التي كانت رعت الأحد اجتماع «الأمناء العامين للفصائل» في مدينة العلمين بحضور كافة الفصائل الفلسطينية ما عدا «الجهاد الإسلامي» و«الصاعقة» و«الجبهة الشعبية القيادة العامة» التي قاطعتْ اللقاء.
* والثاني روّج له قريبون من «قوى الممانعة» رَبَطوا ما يجري في عين الحلوة بمضامين زيارة رئيس المخابرات العامة في السلطة الفلسطينية ماجد فرج لبيروت قبل أسبوع، وسط تقارير تحدّثت عن أنه طلب من المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم ضبْط أي عمل فلسطيني مسلّح داخل المخيمات وخارجها ومعالجة مسألة سلاح «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» في قوسايا (البقاع) وتلال الناعمة (جنوب بيروت) ووقف الدعم المالي والعسكري والتدريبي من لبنان إلى الضفة الغربية وغزة.
وكان الاجتماع الذي رعاه النائب سعد بحث «في سبل وضع حد للاشتباكات الدائرة التي لا يستفيد منها إلا العدو الصهيوني والاتفاق على وقف لإطلاق النار وسحب المسلحين من الشوارع»، ليؤكد في ختامه المجتمعون «ضرورة تشكيل لجنة تحقيق لتسليم مرتكبي جريمة اغتيال العميد العرموشي ومرافقيه»، وهو ما لاقتْه القوى الإسلامية في المخيم بتأكيدها في بيانٍ على «ما توصّلت إليه هيئة العمل الفلسطيني المشترك من وقف فوري لإطلاق النار وسحب للمسلحين وتشكيل لجنة تحقيق تكشف المتورطين في كل ما حصل وتسلّمهم للسلطات الرسمية المختصة»، وذلك برعاية «حزب الله» و«أمل».
وشددت القوى الإسلامية على «رفض الإضرار بأشقائنا في صيدا والجوار وتعريض حياة أبنائهم للخطر، وتأكيد أننا سنستمر في سعينا لتهدئة الوضع ووقف إطلاق النار وإعادة الوضع إلى ما كان عليه»، مستنكرة «كل جرائم القتل التي حصلت أخيراً، بدءاً من عملية قتل عبد فرهود، أو العميد أبو أشرف العرموشي ومرافقيه».
ولم يكن جفّ حبر التفاهُم بالتوازي مع إعلان النائب سعد عن جهود ميدانية تُبذل لضمان ترجمة وقف إطلاق النار، حتى تجددت الاشتباكات العنيفة على أكثر من محور في عين الحلوة، وكانت تشتدّ وتتراجع، من دون أن يكون ممكناً الجزم بالاتجاهات النهائية للوضع، تهدئة أو تحمية.
وسبق مساعي ضبط المواجهات، اتساع غير مسبوق في رقعتها مع تحوُّلها حرب شوارع بكل ما للكلمة من معنى، كما في نوعية الأسلحة التي استُخدمت فيها من مدفع «بي 10» الى هاون 120 ملم وغيرها من قذائف لم توفّر مناطق صيدا والاوتوستراد خارج المخيم الذي لم تهدأ عملية النزوح منه، وسط علامات استفهام حول تعرُّض مراكز ونقاط مراقبة تابعة للجيش اللبناني على تخوم عين الحلوة لإطلاق نار ما أدى إلى إصابة عدد من العسكريين بجروح، وهو ما كانت قيادة الجيش قابلتْه مساء الأحد بالتحذير من «مغبة تعريض المراكز العسكرية وعناصرها للخطر مهما كانت الأسباب»، مؤكدة أنّ الجيش «سيردّ على مصادر النيران بالمثل».
وفيما نقل فارّون من داخل عين الحلوة، أنّ «حجم الدمار كبير جدّاً»، والحياة في المخيم أشبه بـ«الجحيم»، والشوارع خالية سوى من المسلّحين وسط اشتداد عمليات القنص التي أودت بشابٍ، سيطر استمرار الاشتباكات على الوضع العام في صيدا وجوارها حيث شُلت الحركة، وسط إلزام قوى الأمن الداخلي السيارات والآليات المتنقلة بين الجنوب وبيروت على سلوك الطريق البحري في صيدا والغازية.
في موازاة ذلك، أعلن المكتب الإعلامي في وزارة الصحّة اللبنانية في بيان أنه «نظراً للأوضاع الأمنية في مخيّم عين الحلوة، عمدت الوزارة بالتعاون مع إدارة مستشفى صيدا الحكومي إلى إخلاء المرضى من المستشفى الواقع على تخوم المخيم حفاظاً على سلامتهم».
ونُقل عدد من الذين يُعانون حالات صحيّة حرجة إلى مُستشفيات مجاورة، كما بدأ العمل على توزيع مرضى غسيل الكلى على المستشفيات المجاورة.
وكان أمين سر حركة «فتح» وفصائل «منظمة التحرير» في لبنان فتحي أبوالعردات، أعلن صباحاً «اننا ذاهبون إلى التهدئة وإلى وقف إطلاق النار في المخيم»، مؤكداً «يجب التوصل إلى معرفة الجناة المجرمين والقتلة وتسليمهم إلى العدالة اللبنانية كي تستقيم الأمور وترتاح النفوس»، ولافتاً إلى أنه «بعد استشهاد اللواء أبو أشرف العرموشي كانت هناك صعوبة في ضبط الوضع سريعاً».
وإذ حذّر ممثل «حماس» في لبنان أحمد عبدالهادي «من تهجير أهلنا في مخيم عين الحلوة ونتائج ذلك على الوجود الفلسطيني في لبنان»، أطلق مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان، «نداء الى المتقاتلين الفلسطينيين في عين الحلوة بوقف التقاتل فوراً».
وقال «لا يجوز شرعاً ما يجري من قتال الإخوة مهما كان السبب، ينبغي المحافظة على أمن الناس وأرواحهم، وقضيتنا كانت وستبقى فلسطين وقدسها وأهلها».
وقد أجرى دريان اتصالاً بالسفير الفلسطيني في لبنان اشرف دبور (أدار أيضاً لقاءات عدة لاحتواء الموقف)، مؤكداً له «تضامنه الكامل مع وحدة الشعب الفلسطيني وعدم إتاحة الفرصة للتدخل بالشأن الفلسطيني».