من أصل 272 بلدية في المحافظتين، فاز الحزبان في 109 بلدية بالتزكية، ما يعني أن الانتخابات انتهت فعليا في تلك المناطق قبل فتح صناديق الاقتراع.
ولم تقتصر التجاوزات في انتخابات الجنوب والنبطية، السبت الماضي، على التزكية فحسب، بل شهدت العملية خروقات عديدة، لتكريس هيمنة حزب الله وأمل، ولو على حساب قواعد الديمقراطية.
معركة وهمية؟
رغم إصرارهما العلني على إجراء الانتخابات البلدية في موعدها، سعى حزب الله وحركة أمل إلى تجنّب أي معركة انتخابية فعلية في الجنوب، مستغلَين التدهور الأمني والاقتصادي لتأمين الفوز بأكبر عدد ممكن من البلديات بالتزكية، يقول الباحث في تطوير القوانين والأنظمة الانتخابية، عاصم شيّا.
ويشير شيّا في حديث مع موقع “الحرة” إلى أن “فوارق لافتة برزت في إدارة الاستحقاق الانتخابي بين الجنوب وسائر المحافظات، تعكس نهجاً مزدوجاً في التعامل مع العملية الانتخابية”.
في قضاء الشوف، الأكبر في محافظة جبل لبنان، ويضم 76 بلدة، تبيّن حتى 24 أبريل أن 68 بلدة لم تُشكّل فيها لوائح انتخابية مكتملة بسبب شكوك حول إجراء الانتخابات، ما دفع القائمقام إلى تمديد مهلة الترشّح حتى 30 أبريل، لإفساح المجال أمام ولادة لوائح تسمح بإجراء الانتخابات.
وفي الجنوب، كان المشهد مختلفاً، كما يقول شيّا، “حيث فتح المحافظ باب تمديد مهلة الانسحاب إلى الساعة صفر قبل يوم الانتخابات، علماً أن التعاميم الأخرى لبقية المحافظات صدرت من وزارة الداخلية وليس من المحافظين، لتتوالى الانسحابات حتى منتصف ليل يوم الجمعة أي قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع ما فتح المجال لاستمرار الضغوط”.
ويضيف شيّا، أن الضغوط طالت المرشحين المعارضين لحزب الله وأمل، إذ “جرى دفعهم إلى الانسحاب في اللحظات الأخيرة، ما أدى إلى أن تكون المعركة الانتخابية وهمية”.
ويضيف أن “العديد من اللوائح المنافسة للثنائي الشيعي انسحبت قبل الاقتراع، وبعضها الآخر خلال يوم الانتخابات وذلك دون توثيق رسمي”.
ويحذّر شيّا من أن فوز اللوائح بالتزكية يلغي حق المواطنين في التعبير عن إرادتهم، فضلا عن أن التزكية “تُنتزع أحيانا بالقوة أو بالضغط”.
ويلفت شيا إلى فيديو متداول يظهر رجلين يتحدثان في الهاتف مع رجل يفترض أنه رئيس مجلس النواب نبيه بري وهو “يحاول إقناع والد أحد المرشحين بسحب ترشيح ابنه”.
ومن أبرز الخروقات التي رافقت العملية الانتخابية، وفقا لشيا، توزيع صناديق الاقتراع فجرا على رؤساء مراكز اقتراع محسوبين على الثنائي من منطقة بعلبك-الهرمل، فيما حرم رؤساء المراكز الذين وصلوا لاحقاً من استلام الصناديق، ما أتاح سيطرة شبه كاملة للثنائي على إدارة العملية داخل مراكز الاقتراع، كما سجلت إشكالات أمنية داخل عدد من مراكز الاقتراع.
وسجلت الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات “لادي” خروقات تتعلق بمبدأ سرية الاقتراع.
“وضعت المعازل بطريقة مكشوفة لا تحترم سرّية الاقتراع، وسمح لناخبين بالاقتراع باستخدام إخراج قيد أو جواز سفر منتهي الصلاحية، في مخالفة لتعميم وزير الداخلية الذي ينّص على ضرورة الاقتراع إما ببطاقة هوية أصلية وإما بجواز سفر صالح،” قالت الجمعية.
ورصد مراقبو “لادي” استمرار الضغوط على الناخبين في محيط مراكز الاقتراع، حيث تدخل بعض المندوبين للتأثير على خيارات الناخبين.
سباق مع الوقت
لم يكن إصرار حزب وأمل على إجراء الانتخابات البلدية في موعدها مفاجئا، بحسب المحلل السياسي والمحامي أمين بشير، الذي يرى أن هذا الإصرار نبع من “حاجة ملحّة لاستثمار ما تبقّى من تعاطف شعبي داخل البيئة الحاضنة، قبل أن يبرد الدم”، على حدّ تعبيره، “وقبل أن تتعمّق أزمة الثقة التي تهزّ القاعدة الشعبية لحزب الله نتيجة عاملين رئيسيين: التدهور المالي الحاد، وتآكل ما يعتبره الحزب مصدر شرعيته وقوته، أي سلاحه”.
ويشير بشير في حديث لموقع “الحرة” إلى تقديرات متداولة “تفيد بأن نحو 40% من البيئة الشيعية باتت خارجة عن سيطرة الحزب، وهي نسبة تظهر حجم التراجع في الهيمنة التي لطالما تمتّع بها داخل مجتمعه”، ويضيف أن “هذه الظاهرة ليست حكراً على حزب الله، بل تتكرّر في كل بيئة سياسية عند وصول الحزب الحاكم إلى ذروة السلطة، إذ تنتفخ صفوفه بالمنتفعين، ثم تبدأ هذه الفئات بالانفضاض عنه عندما تتراجع قدرته على توزيع المكاسب”.
ويلفت بشير إلى أن “حزب الله رصد هذا التفلّت المتزايد، لا سيما من جانب المنتفعين الذين التحقوا به طلباً للمال والخدمات، وبدأوا اليوم بالابتعاد عنه نتيجة عجزه عن الاستمرار في تقديم ما كانوا يعتبرونه مكتسبات”.
في هذا السياق، عمل الحزب على إجراء الانتخابات بسرعة لهدفين أساسيين يقول بشير “أولاً، ضبط شارعه ومنع اتساع هامش الاعتراض داخله، وثانياً، توجيه رسالة إلى الخارج مفادها أنه لا يزال يتمتع بقاعدة شعبية واسعة، ويمسك بمفاصل القرار السياسي داخل بيئته”.
ويشرح بشير أن “حزب الله ركّز خلال هذه الانتخابات على الفوز بالتزكية في أكبر عدد ممكن من البلديات، لتجنّب معارك في بيئة اجتماعية تعرف تاريخياً بالخصومة داخل البيت الواحد، وقد نجح إلى حدّ كبير في هذا المسعى، ما يعكس حجم الضغط الذي مارسه على الخصوم والمستقلين لضمان غياب المنافسة”.
أما في البلدات التي خرجت عن سيطرته، فلجأ الحزب وفق بشير “إلى أدواته التقليدية، من الترغيب والترهيب، وصولاً إلى التلاعب في العملية الانتخابية، حيث سُجّلت شكاوى من ضغوط على الموظفين وتجاوزات في إدارة صناديق الاقتراع، ما ألقى بظلال ثقيلة على نزاهة هذا الاستحقاق المحلي”.
رسائل مزدوجة
ما قام به حزب الله في الجنوب “ليس مجرد تكتيك انتخابي محلي”، يقول شيّا “بل محاولة لإيصال رسالة سياسية إلى المجتمع الدولي مفادها أن الثنائي الشيعي لا يمكن تجاوزه أو تهميشه في أي مشروع ميداني أو تنموي، لا سيما أن التمويل الدولي سيمر عبر البلديات والمؤسسات الرسمية”.
“السيطرة على البلديات تُعدّ مفتاحاً أساسياً لتكريس النفوذ وبسط الزبائنية”، يشدد شيّا، موضحاً أن “الأحزاب تستفيد من البلديات لتقديم خدمات وامتيازات للمواطنين، ما يعزز الولاء السياسي ويمهّد للانتخابات النيابية المقبلة، فمن خلال البلدية، يمكن تمرير مخالفات بناء أو توزيع مساعدات تحصل عليها البلديات، ما يعمّق الولاء السياسي على حساب الدولة”.
ويعتقد بشير أن هذه الانتخابات شكّلت مناسبة للحزب لإرسال رسائل مزدوجة “إلى الداخل، بأن لا اختراقات حقيقية في بيئته، وأن المعارضة الشيعية لا تزال بلا حيثية فعلية، وإلى الخارج، بأنه لا يزال يشكّل رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية”.
ويكشف بشير أن ما ساعد الحزب على التحرك بحرية في مناطقه، “هو حصول رئيس الجمهورية اللبنانية على ضمانات أمنية بعدم استهداف الجنوب خلال العملية الانتخابية، ما أتاح للحزب فرض أجواء من الهيمنة والخوف على المعارضين له”.
ويختم بشير بالتشديد على أن “حزب الله استفاد من إخفاقات حلفائه، ومن تشرذم قوى المعارضة، ليظهر بمظهر القوي الذي لم يُهزم، في حين أن الواقع الفعلي يشير إلى تآكل قدرته وقوته، سواء داخل بيئته أو في المعادلة الوطنية العامة”.