والحال أن الرد الإيراني أتى مضبوطاً ضمن اطار التفاهمات الاستخبارية المعهودة بين إيران وأميركا، تماماً مثل التفاهمات التي تمت بعد اغتيال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب القائد السابق لـ “فيلق القدس” قاسم سليماني في الثالث من كانون الثاني (يناير ) 2020 . يومها أتى الرد بعد خمسة أيام مضبوطاً و”مدروساً” وفق ما كشف عنه الرئيس ترامب نفسه. هذه المرة بدأت تفاصيل السيناريو تتكشف مبكرة جداً. فمن المعلومات التي بدأ الاميركيون يسربونها، الى مضمون تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين امير عبد اللهيان، يمكن الجزم بأن الرد الإيراني جرت مسرحته بين طهران وواشنطن ليأتي كنوع من رد الاعتبار لإيران بعد الضربات المؤلمة التي تلقتها علناً في سوريا وسراً داخل حدودها، بما لا يؤدي الى انفلات الأمور وانفجار حرب إقليمية واسعة.
باختصار، هذه خلفية الهجوم الإيراني على إسرائيل. والهجوم لن يغير من طبيعة الحرب الإسرائيلية على غزة. فالحرب التي تغير شكلها من حرب شاملة الى حرب توغلات ومطاردات لحركة “حماس” والفصائل الفلسطينية المقاتلة الى جانبها مستمرة ولم يطرأ عليها أي تغيير. كما ان الخطط المعدلة لاجتياح رفح لا تزال على الطاولة. والحرب طويلة. اما بالنسبة الى حرب الاستنزاف مع “حزب الله” في لبنان فلم ولن يطرأ عليها أي تغيير في العمق. لا بل ثمة تقديرات لمصادر دبلوماسية غربية في بيروت تشير الى أن إسرائيل سوف تصعّد وتيرة المواجهة لرفع الثمن الذي يدفعه “حزب الله” نيابة عن ايران. وتعتبر المصادر الدبلوماسية المذكورة أن تل ابيب سوف تدخل تعديلاً موقتاً على الحرب التي تخوضها فوق الأراضي السورية ضد “الحرس الثوري” الإيراني، بحيث تكثف من استهداف قيادات الفصائل الإيرانية على الأراضي السورية وفي مقدمتها “حزب الله”، بما في ذلك تكثيف الضربات على البنى التحتية باعتبار ان الهدف هو محاصرة التمدد الايراني على الأرض. أما العودة الى استهداف مقار دبلوماسية فسيتوقف لمدة في مقابل مواصلة إسرائيل الضرب على اهداف عسكرية إيرانية غير سيادية كالقنصلية والسفارة. ودائما بحسب المصادر المشار اليها آنفا تعتبر تل ابيب انها لا تملك ترف التراجع عن استهداف التمدد الإيراني العسكري والأمني في سوريا ولبنان.
من هنا ستبقى جبهة لبنان مشتعلة. ويرجح ان ترتفع سخونة المواجهات مع “حزب الله”. اما بالنسبة الى الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، فمن المرجح ان تضطر الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو للتراجع عنه تحت الضغط الشديد من الإدارة الأميركية التي يخوض رئيسها معركة انتخابية قاسية جدا. ولكنها ستستعيض عن الرد بتفعيل “حرب الظلال” ضد ايران، لاسيما في الداخل الذي يعتبر نقطة الضعف الكبيرة لأمن النظام.
يمكن الاستنتاج انه مع الرد الإيراني طويت صفحة مجزرة القنصلية الإيرانية. لكن صفحة المواجهة بأشكال أخرى مفتوحة من قطاع غزة، الى لبنان وسوريا وصولا الى الداخل الإيراني نفسه. ولا ننسى ان القضية الأخطر ستبقى مطروحة على الطاولة: القنبلة النووية الإيرانية العتيدة!