ويقول، محمد السليمان، وهو لاجئ سوري مقيم في إسطنبول، إنه “لا يفكر البتة بالإقدام على مثل هذه الخطوة”، ولاسيما أنه تفاجئ قبل عامين بأنه “مطلوب بنشرة أمنية لفرع الأمن العسكري”، إذ تردد عناصر إلى منزله الكائن في مدينة حمص لأكثر من مرة وسألوا والده “أين ابنك؟ وفي أي بلد يقيم؟. بدنا ياه”.
ويشابه حال هذين الشابين السوريين إلى حد كبير قصة الشاب السوري، عمار المقيم في مخيمات عرسال اللبنانية، إذ يعتبر أن “عودته إلى مدينته القصير تعني الموت بكل بساطة!”، ويوضح لموقع “الحرة” أن منزله الكائن هناك استولى عليه منذ سنوات طويلة عناصر مقربون من “حزب الله” اللبناني، وأن تحذيرات وصلتهم مفادها: “إياكم والعودة”.
وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية تصدرت قضية “عودة اللاجئين” إلى سوريا الحديث المتعلق بمشهد اللجوء السوري. وجاء ذلك بعدما أعادت الدول العربية فتح أبوابها أمام النظام السوري، مستأنفة علاقات تم تجميدها لسنوات طويلة.
ولم يقتصر تصّدر هذه القضية على مشهد العلاقات العربية-السورية فحسب والسوريين الموجودين في لبنان والأردن، بل انسحبت بجزء مغاير قليلا إلى تركيا، التي تستضيف العدد الأكبر من اللاجئين.
وفي حين كان أساس عودة العلاقات العربية مع النظام السوري “عودة اللاجئين” بالإضافة إلى ملف تهريب الكبتاغون ودفع مسار الحل السياسي إلى الأمام لم يقدم النظام السوري أي بادرة إيجابية بخصوص هذه الملفات الثلاث.
وعلى العكس ناور رأسه بشار الأسد في مقابلة أجرتها معه قناة “سكاي نيوز عربية” قبل يومين على أكثر من مسار، وبينما تنصل من “قضية تهريب الكبتاغون”، رغم التقارير الغربية التي تؤكد ضلوع قوات “الفرقة الرابعة” فيها اعتبر أن “عدم عودة اللاجئين” يعيقها سوء الأحوال المعيشية.
في غضون ذلك قال الأسد إن “المعارضة التي يعترف بها هي المعارضة المصنّعة محليا لا المصنعة خارجيا”، ضاربا بعرض الحائط تأكيدات الدول العربية والغربية على ضرورة التقدم بالحل السياسي، والذي تشارك فيه بعدة مسارات أطراف من المعارضة تقيم في معظمها خارج البلاد.
“حادثتان تلخصان المشهد”
ورغم مرور 12 عاما على الحرب في سوريا ماتزال المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري تحكمها سياسة أمنية “متوحشة” بحسب تقارير منظمات حقوقية سورية ودولية، فيما لم يقدم الأخير أي خطوة على صعيد المعتقلين في سجونه، والكشف عن مصير المختفين قسريا المقدرة أعدادهم بمئات الآلاف.
على العكس وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، الأسبوع الماضي حادثة قتل تحت التعذيب راح ضحيتها الشاب السوري محمد عبد الرحمن مجو، بعدما عاد إلى مدينته حلب “طوعا”، قادما من المنطقة التي نزح إليها سابقا في الأتارب، الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة.
والشاب “مجو” من أبناء حي خان العسل جنوب غرب مدينة حلب، وفي شهر مايو الماضي توجه من مكان نزوحه في الأتارب إلى مدينة حلب، “لإجراء تسوية لوضعه الأمني والعودة إلى مكان إقامته الأصلي”.
لكن في الخامس عشر من شهر يونيو أقدم عناصر من “فرع الأمن العسكري” على اعتقاله من منزله، وذكر أحد أبناء عمومته لموقع “الحرة” أنهم اقتادوه بعد ذلك إلى مراكز الاحتجاز في العاصمة دمشق، وأصبح في عداد المختفين قسريا منذ ذلك الوقت.
وأوضح قريبه و”الشبكة الحقوقية” أن عائلة محمد تلقت نبأ وفاته في الثالث من أغسطس الحالي، بشكل غير رسمي، وعبر اتصال من قبل عناصر قوات النظام السوري.
وتمكنت العائلة من استلام جثمان الشاب الضحية، وبحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” نقلا عن شهود “تعرض محمد للتعذيب بطريقة وحشية والحرمان من الغذاء وإهمال الرعاية الصحية خلال فترة احتجازه، وقد ظهر على جسده أثار التعذيب ولم تتمكن عائلته من فتح تحقيق في حادثة وفاته أو تقديم شكوى للنائب العام بسبب خوفها من الملاحقات الأمنية”.
حادثة أخرى وثقها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الجمعة، إذ قال إن “إعلاميا حربيا من قوات النظام فارق الحياة تحت وطأة التعذيب، بعد اعتقال دام أكثر من عام في سجون الأخير”.
وأوضح المرصد الحقوقي أن “الإعلامي” يتحدر من مدينة إزرع بريف درعا الأوسط، وكان قد اعتقل منذ أكثر من سنة بسبب منشور على “فيس بوك” انتقد فيه سياسة النظام في التعامل مع تجار المخدرات. وتابع المرصد الحقوقي أن “دورية أمنية اعتقلته على الرغم من أنه كان يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية، ويحمل بطاقة صحفية مرخصة من السلطات في سورية، بمزاولة العمل المهني، مع اثنين من أبناء المدينة أيضاً، ما يزال مصيرهما مجهولا”.
الأفرع تنتظرنا”
بالنسبة للشاب السوري، رامز الحمصي، وهو صحفي مقيم في الأردن منذ سنوات “تعتبر المعضلة الأمنية في سوريا السبب الرئيسي وراء عدم عودته إلى البلاد”.
ويقول لموقع “الحرة”: “أغلب الناس في مرحلة التجنيد أو الاحتياط أو الذين شاركوا ضد النظام السوري يخافون من العودة”، مشيرا إلى أن “مراسيم العفو لم تكن جادة. نرى تقارير عن اعتقالات، وهناك ثغرات موجودة فيها تزيد من حالة الخوف على نحو أكبر”.
“إحدى الثغرات في مراسيم العفو هي حق الدم الذي لا يعفى عنه”، ويتابع الحمصي: “عند عودتي قد أتعرض للاعتقال بناء على شكوى مقدمة ضدي من شخص غير معروف، وبعد ذلك أصبح في عداد المختفين”.
وخلال مقابلته مع القناة التلفزيونية قال الأسد لمحاوره: “خلال السنوات الماضية عاد إلى سوريا أقل من نصف مليون بقليل ولم يسجن أي شخص من بينهم”.
وأضاف أن “العودة توقفت بسبب واقع الأحوال المعيشية، فكيف يمكن للاجئ أن يعود من دون ماء ولا كهرباء ولا مدارس لأبنائه ولا صحة للعلاج؟. هذه أساسيات الحياة، وهذا هو السبب”، حسب تعبيره.
ووفق رئيس النظام السوري “أصدروا قانون عفو عن كل من تورط بالأحداث خلال السنوات الماضية”، لكنه تابع مستدركا: “ما عدا الجرائم المثبتة التي فيها حقوق خاصة، وكما تسمى بحقوق الدم”.
لكن اللاجئ السوري المقيم في إسطنبول محمد لا يرى حديث الأسد واقعيا، ويقول: “الأفرع الأمنية تنتظر كل من يعود إلى سوريا. هذا هو الحال الذي يعرفه كل السوريون ويعرفه النظام السوري بنفسه”.
ويضيف عمار المقيم في عرسال اللبنانية أن العديد من أقربائه تعرضوا للاعتقال خلال العامين الماضيين، وأن آخرين مازالوا يقيمون في منازل بالإيجار، لكون بيوتهم الأصلية مستولة عليها من قبل مقربين من “حزب الله” اللبناني في القصير.
“وضع أمني متوحش”
ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أُجبر أكثر من 14 مليون سوري على الفرار من ديارهم منذ 2011. ولا يزال هناك نحو 6.8 مليون نازح سوري في الداخل حيث يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر. وبعد 13 عاما من الحرب ما تزال الأمم المتحدة تؤكد على أن “سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين”، وأيضا “لجنة التحقيق الدولية المستقلة”، التي أشارت في تقرير لها مؤخرا إلى أن “غياب عنصر الآمان” ينسحب على كل جغرافيا البلاد. ولطالما أعلن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه أنهم لن يمولوا إعادة الإعمار في سوريا ما لم يروا انتقالا سياسيا “جاريا بحزم”، وهو الموقف الذي عكسته الولايات المتحدة الأميركية مرارا على لسان مسؤوليها، في وقت أكدت على استمرارها في فرض العقوبات حتى التوصل إلى “حل سياسي”، بموجب القرار الأممي 2254. ولم ينفذ النظام السوري قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي تم تبنيه في ديسمبر 2015 كخريطة طريق للسلام في سوريا. ويدعو القرار إلى عملية سياسية بقيادة سورية، تبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالية، تليها صياغة دستور جديد وتنتهي بانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.
ويوضح مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني أن “العائق الأكبر لعودة اللاجئين السوريين هو الوضع الأمني المتوحش، الذي تمارسه أجهزة النظام السوري”.
ويقول عبد الغني لموقع “الحرة”: “النظام يتحدث عن الخدمات لكي يحصل على الأموال، وينهب قسم أكبر منها. هذه سياسة النظام السوري في تلقي المساعدات منذ سنوات طويلة”.
“استراتيجية النظام كما قال للدول العربية: أعطونا أموال لكي نعيد اللاجئين، وكأن الذي تدمّر في سوريا لم يكن بفعل جيش النظام والبراميل التي ألقاها على المدن بعد محاصرتها”، حسب تعبير الحقوقي السوري.
ويضيف مؤكدا: “العائق أمام العودة هو أنه لا يوجد أي ضمانة لأي سوري بأنه لن يعتقل أو يقتل تحت التعذيب أو يزج فيه في الجيش”.
“سوريا باتت دولة بدون قانون وتحولت إلى مافيا”، ويتابع عبد الغني: “في حال اعتدى أي عنصر أمن على مواطن لا يمكنه أن يأخذ حقه في القضاء. الأجهزة الأمنية تتصرف على أهوائها”.
وبحسب قول الأسد فإن “البنى التحتية مدمرة في سوريا بسبب الإرهاب، وهذا ما يقوله معظم اللاجئين الذين نتواصل معهم، ويرغبون بالعودة. يقولون كيف نحيا وكيف نعيش”.
لكن ما سبق يخالف ما وثقته منظمات حقوق إنسان دولية، إذ وثقت إقدام قوات النظام السوري خلال سنوات الحرب على إلقاء البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية المأهولة بالسكان، وبالتزامن مع تنفيذها ضربات جوية ومدفعية وبأسلحة محرمة دوليا.
ومع ذلك تشهد المحافظات السورية إلى جانب الدمار أزمة معيشية غير مسبوقة، وبينما يحمّل النظام السوري الدول الغربية مسؤولية ذلك ويربطها بالعقوبات، لطالما أكدت الأخيرة على رأسها الولايات المتحدة الأميركية أن الإجراءات العقابية لا تستهدف إلا أركان النظام ومجرمي الحرب، بعيدا عن القطاعات التي يحتاجها المدنيون.
ماذا عن مراسيم العفو؟
وفي تحليل سابق لها أشارت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إلى أن كافة مراسيم العفو التي أصدرها النظام السوري أفرجت عن 7351 معتقلا تعسفيا، وما زال لدى النظام السوري قرابة 135253 معتقلا/مختف قسريا.
وذكر التقرير أن النظام السوري أصدر منذ مارس 2011 ما لا يقل عن واحد وعشرين مرسوما للعفو منح في معظمها العفو عن كامل أو نصف أو ربع العقوبة لمختلف الجرائم والجنح الجنائية بشكل رئيس.
وخصص النظام بهذه المراسيم بعض المواد والأحكام المحدودة التي تخص المعتقلين على خلفية التعبير عن الرأي السياسي والمشاركة في الحراك الشعبي، بالإضافة إلى شمول معظم المراسيم الأشخاص العسكريين الفارين من الخدمة العسكرية (المنشقين) مع اشتراط تسليم أنفسهم خلال مدة حددها كل مرسوم من تاريخ صدوره وحتى عدة أشهر.
كما أتت بعض المراسيم كتمديد لأحكام مراسيم سابقة، خاصةً تلك المتعلقة بالعسكريين أو من حملة السلاح من المدنيين لتسليم أنفسهم.
وأوضحت “الشبكة الحقوقية” أن “جميع المراسيم صدرت عن رئيس الجمهورية الذي يرأس السلطة التنفيذية، منتهكا بذلك قانون العقوبات السوري، أما مجلس الشعب وهو الجهة التشريعية المخولة بدراسة وإقرار مراسيم العفو العامة لم يصدر عنه أي قانون عفو مطلقا”.
ولم تفض المسارات السياسية التي مضى بها نظام الأسد والمعارضة السورية، على مدى 11 عاما إلى أي نتائج على صعيد الإفراج عن المعتقلين أو الكشف عن مصيرهم، وعما إذا كانوا على قيد الحياة أم توفوا تحت التعذيب. وكان من بين هذه المسارات “سوتشي” و”جنيف” و”أستانة”. وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع الدولي و”الدول الصديقة وغير الصديقة للسوريين”، التي لم تتمكن أيضا من خلال مواقفها الكثيرة في التوصل إلى أي نقطة يمكن البناء عليها بخصوص المعتقلين، سواء في الوقت الحالي أو مستقبلا.
“لا ينسى من خرج ضده”
ويرى الصحفي الحمصي المقيم في الأردن أنه “لا يوجد جدية قوية من النظام لتخفيف القبضة الأمنية”، متحدثا عن وجود “مؤسسة مخابراتية متكاملة في سوريا، وميليشيات متعددة تتبع للأمن العسكري والجوية، وأخرى لإيران وحزب الله وللجيش السوري”.
ويقول: “قد تعتقل ولا تعرف من اعتقلك!. هل هي ميليشيا محلية أم إيرانية أم أجهزة نظام أو أي أحد كيدي؟. احتمالات الاعتقالات كبيرة جدا، وهذا أهم سبب لا يدفع السوري في الخارج للعودة”.
ومن جانب اقتصادي يشير الصحفي إلى أن “الكثير من العائلات التي لم يكن لها نشاط سياسي في السابق تتخوف من العودة أيضا، بسبب دمار البنية التحتية وغياب وظائف الدولة”.
“لا اقتصاد ولا استثمار وبعض العائلات التي عادت من الأردن بعد 2018 تندمت فعليا أنها عادت. الليرة كل يوم تتدهور وفي كل ساعة سعر. من في الداخل يتمنى الخروج والذي يقيم في الخارج لا يتمنى العودة”، حسب تعبير ذات المتحدث.
من جهته يوضح الشاب السوري محمد المقيم في إسطنبول أن أقاربه في الداخل حيث يسيطر النظام السوري “يعيشون في متاهة كارثية سواء من ناحية المعيشية أو الوضع الأمني القاتم”.
ويشرح أن أحد أعمامه في مدينة حمص استدعي قبل أشهر لـ”فرع المخابرات الجوية”، بسبب “فيش أمني مرتبط باسمه منذ عام 2011″، معتبرا أن “النظام لا ينسى من خرج ضده وهذا ما يخيف كل السوريين ويمنعهم من مجرد التفكير بالعودة لا الإقدام على الخطوة”.
من جهته يوضح الصحفي رامز الحمصي أن “غالبية السوريين في الأردن لا يفكرون بالعودة في الوقت الحالي وحتى لو تعرضوا للتضييق”.
ويتابع: “الناس بحسب ما نعاين سيظلون في الخارج حتى آخر رمق. وللابتعاد عن فكرة العودة يفكرون بالانتقال إلى بلد آخر، سواء في ليبيا أو في مناطق تشهد بعض الاضطرابات، كي لا تلاحقهم الحكومات بشأن أوضاعهم القانونية”.