الأمسية من تنظيم «نادي الموسيقى الكلاسيكية» في الجامعة بشارع «بلسّ» النابض بالحياة، بالتعاون مع «برنامج زكي ناصيف». أعضاء من النادي، ورئيسه، عزفوا ونالوا التصفيق، وراح حاضرون يتهامسون حول مواهبهم بإعجاب. تواصل الحفل ليل الثلاثاء مع صوتين نالا إعجاباً مماثلاً: فادي جانبرت، ومنى حلاب. كل شيء بدا بكامل استعداده: الآلات، وسيّدها البيانو متوسّطاً القاعة الواسعة، ومستقبلاً بين حين وآخر شجن الكمان وفرادة البوق؛ والجمهور الآتي للاستماع إلى ما لم تعد تضجّ به المنصات الموسيقية، بعدما سلّمت جزءاً هائلاً من مساحاتها للصخب، وأبقت على استثناءات ليست كثيرة، ترى في السكينة جمالاً يمكن الإصغاء إليه.
نوَّع رئيس النادي وئام حداد بين الإنجليزية والعربية وهو يُلقي كلمته. رحَّب بحضور حجز المقاعد، آتياً لتشارُك «تجربة فريدة في رحلة التعرُّف إلى تراثنا الموسيقي الكلاسيكي». أخبرهم أنّ النادي ليس أول داخلي هذا المجال، فبعضٌ كان سبّاقاً، «منهم شركاؤنا في مركز التراث الموسيقي الكلاسيكي اللبناني بـ(مدرسة الجمهور)». وصف هذا الحقل بـ«اليافع»، مع التشديد على أهمية مرحلة الاستكشاف على صعيدَي الثقافة العامة والعمل البحثي الأكاديمي.
أعمال من هذا التراث، ملأت الآذان جمالية، وتسبّبت بعزلة عن كل ما يحدث في الخارج. تنبّه حداد إلى صعوبة الغَرْف الشامل من كتب الموسيقى الكلاسيكية في لبنان، وأوضح الأسباب: «منها العملي واللوجيستي، وصعوبة الوصول إلى المادة الموسيقية، ولضيق الوقت». أخبر الآتين أنّ ما ينتظرهم «عيّنة موسيقية من أعمال جورج باز، وتوفيق سكر، وبوغوص جلاليان، ووديع صبرا، ومحمد وأحمد فليفل، وزكي ناصيف»، تاركاً لنفسه، وللطلاب الشباب عزفها بأنامل واعدة.
شغل جورج باز (1926-2012) منصب حاكم مصرف لبنان، ورغم أنه مصرفي، شكّلت الموسيقى شغفه، فدرسها بين وطنه وإيطاليا. أبحر في اللغة الموسيقية الكلاسيكية والأسلوب الانطباعي، ومن مجموعته تمايلت أنامل ميشال أبو جودة، وكريم بحر، ومالك بحر على البيانو، وحرّكت المشاعر.
تهجّر بوغوص جلاليان (1927-2011) مع عائلته من الإسكندرونة، ووجد نفسه عازفاً على البيانو وموزّعاً لأعمال كبار، من بينهم الأخوان الرحباني. علَّم في الكونسرفتوار اللبناني، وكان زياد الرحباني من تلامذته. يمزج أسلوبه الموسيقى الكلاسيكية الجدّية بالتراث الشرقي والجاز. أعماله كانت ولا تزال معاصرة؛ منها عَزَف جاد مراد على الكمان، وميشال أبو جودة على البيانو، مقطوعات مُبهجة.
عُرِف الأخوان محمد فليفل (1899-1986)، وأحمد فليفل (1906-1991) بتأليف أناشيد ردّدها العالم العربي. قادا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فرقة من الآلات النحاسية والنفخ كانت تؤدّي الأناشيد أسبوعياً في ساحات بيروت. لهما عزف وئام حداد على البيانو، وجواد حداد على البوق، ولمى سليم على الكمان، نغمات نالت حرارة التحية.
تصل المحطة الموسيقية إلى زكي ناصيف (1916-2004). هو ابن الجامعة الأميركية، درس في معهدها الموسيقي الذي فتح أبوابه بين الأعوام 1929 و1949. استماله التراث الشعبي، وتأثّر بإيقاع الأنماط اللاتينية، ومع ذلك تبنّى اللغة الهارمونية الكلاسيكية. له عَزَف ميشال أبو جودة ووئام حداد على البيانو ألحاناً مكانها الذاكرة، وغنّت، في مقطوعة لاحقة، السوبرانو منى حلاب، بمشاركة فادي جنبارت بصوته وجهوده لتعزيز ثقافة الموسيقى الكلاسيكية، مع مايا معلوف، ونارود سيروجيان، وسارة ملاح على الكمان، ووئام حداد على البيانو.
تابع الحفل إعلاء النغم القادر على نقل المرء إلى حالة أفضل. المُكرَّمون بموسيقاهم مرّوا على إرثَي توفيق سكر (1922-2017)، أحد المجدّدين الكبار في التراث الشرقي، ووديع صبرا (1876-1952) أول لبناني درس في الكونسرفتوار بباريس ووضع النشيد الوطني لبلاده؛ ليستعيد حداد عطاءات الجامعة في مجال الموسيقى الكلاسيكية، ويُذكِّر بأنها خرّجت المؤلّف وعازف الشيللو توفيق الباشا، وحضنت عازف الأرغن والمؤلّف سلفادور عرنيطة.
لم يكن الحفل مجرّد فرصة للاستمتاع بالموسيقى، بل أتاح أيضاً مدَّ جسور بين الماضي والحاضر. فإثراء العلاقة بالموسيقى الكلاسيكية وتعزيز فهم تراثها الثقافي، بعضُ الإرث اللبناني الذي أنجب كباراً، منهم ناجي حكيم، وبشارة الخوري، وإياد كنعان… جميعهم أعلوا شأن فهم الموسيقى الكلاسيكية بالإصغاء إليها، وإبقائها حيّة مهما تقلّبت الأيام.