فلبنان، الذي غالباً ما تغنى بأنه جمهورية ذات نظام برلماني – ديموقراطي يسهل العثور فيه على «رئيس سابق» لاحترامه «تداول السلطة»، يمضي الآن بلا رأس ولا رئيس بعدما «تعود» الفراغ في مؤسسات الحكم الآيلة إلى الشلل والسقوط والتلاشي.
المال، الاقتصاد، الصحة، التعليم، لقمة العيش… كلها عناوين لـ«نكبات» في لبنان، الوطن المعلق على «حبال الهواء» من شدة عصف الأزمات وتداعياتها على الإنسان والكيان، وعلى الاستقرار الاجتماعي وتالياً الأمني، وعلى كل نواحي الحياة وميادينها.
وتحت وطأة الأزمة الشاملة تحولت «البيئة» خاصرة رخوة تهب منها «الرياح السود» الأمر الذي دفع بنقيب الأطباء الدكتور يوسف بخاش إلى قرع جرس الإنذار حين أعلى الصوت محذراً من أن لبنان بات في رأس قائمة الدول الأكثر إصابة بالسرطان نتيجة الملوثات التي تجتاح تربته ومياهه، وتالياً مزروعاته.
«القاتل الصامت»
لم يعد الهواء في لبنان «يطيل العمر»، صار «القاتل الصامت» بحسب عنوان لورشة سبق أن نظمتها وزارة البيئة بالتعاون مع مؤسسة «هانز زايدل»، وهو الواقع الذي يتصدر مؤشرات لمؤسسات مهتمة تتحدث عن المكانة «المفجعة» للبنان في سلم الدول المصابة بتلوث الهواء.
النائبة في البرلمان اللبناني نجاة عون صليبا، الدكتورة في الكيمياء التحليلية ومديرة مركز حفظ البيئة في الجامعة الأميركية في بيروت، شرحت لـ «الراي» خطورة الوضع البيئي في لبنان من حيث نوعية هوائه فأكدت أن الملوثات متعددة وتنقسم إلى انبعاثات غازية وجزيئيات في الهواء.
وهي تعتبر أن منطقة المتوسط كلها، كما منطقة الشرق الأوسط، عرضة لغبار صحراوي كونها تقع بين صحراوين كبيرتين هما الصحراء العربية والصحراء الأفريقية.
ورأت أنه «لا يمكن المقارنة بين وضع لبنان والبلدان الأوروبية المحيطة بالمتوسط، حيث هناك معايير تخضع لها جودة الهواء وعقوبات في حال تخطيها. أما في لبنان فنسبة تلوث الهواء هي أكثر بأربع إلى خمس مرات مما تنصح به منظمة الصحة العالمية وهذا أمر مؤكد».
واشارت إلى أن «أبرز أسباب التلوث المحلي والانبعاثات الغازية الضارية هو أسطول السيارات القديمة سواء بالتقنيات المستخدمة فيها أو بعمر محركاتها ويضاف إليها العدد الهائل لمولدات الكهرباء والعدد الكبير لمحارق النفايات. وما يزيد الطين بلة إن لبنان لا يملك أي استراتيجية للحد من التلوث لا على صعيد استبدال السيارات القديمة ولا على صعيد المولدات».
وفي العام 2020 صدر تقرير عن حال البيئة في بلاد الأزر عنوانه «واقع البيئة في لبنان والتوقعات المستقبلية: تحويل الأزمات إلى فرص»، أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بدعم من المفوضية السامية في الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة اليونيسف.
اعتبر التقرير، الذي ارتكز على دراسات عينية موثوقة، أن تدهور نوعية الهواء من أكبر الأخطار البيئية التي تؤثر على الصحة العامة في لبنان. أما مصادر تلوث الهواء فهي عدة أبرزها قطاع النقل وتوليد الطاقة والقطاعات الصناعية، إضافة إلى المصادر الطبيعية مثل العواصف الترابية وحرائق الغابات.
وحدد التقرير عينه، وبناء على دراسات استمرت لأعوام عدة، قطاع النقل البري كمصدر رئيسي للانبعاثات الخطرة والمركّبات العضوية المتطايرة. فقطاع النقل في لبنان يعاني مشاكل جمة نتيجة الأزمة المالية المستجدة والنزوح السوري وبسبب تراكمات سابقة أبرزها غياب خطة متكاملة للنقل العام.
فعدد السيارات في لبنان لا ينفك على ازدياد سواء الجديدة منها أم المستعملة وبلغ عدد السيارات المستوردة عام 2022 وحده نحو 740 ألف سيارة، ضمنها 263 ألف سيّارة جديدة، و477 ألف سيّارة مستعملة أتت لتضاف إلى نحو مليوني سيارة ومركبة سابقة كانت موجودة في لبنان وفق مؤسسة«الدولية للمعلومات».
كما ازداد عمر السيارت من 13 إلى 19 عاماً ما ساهم في زيادة نسبة وطول فترة تلويثها للهواء. كما إزدادت المركبات التي تعمل بالديزل وإرتفع عدد الدراجات النارية في شكل غير مسبوق.
وأدى النزوح السوري إلى كثافة حركة المرور في مناطق لبنان بنسبة تعادل 15 في المئة في بيروت و50 في المئة في المناطق التي توجد فيها مخيمات اللاجئين. والانبعاثات التي تم رصدها نتيجة ذلك على الطرق السريعة والطرق الداخلية في لبنان أظهرت أنها أعلى بنسبة 278 في المئة من تلك التي تم تسجيلها في إحدى الطرق الرئيسية في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
قطاع الطاقة
وإلى جانب هول ما يسببه قطاع النقل من تلوث هوائي ثمة كابوس بيئي يرزح تحته لبنان وهو قطاع الطاقة ولا سيما المولدات التي تعمل بالديزل أو المازوت المنتشرة في كل حي سكني وبين البيوت وفي أمكنة مقفلة في كثير من الأحيان. وقد أظهرت دراسة حديثة صدرت عن الجامعة الأميركية في بيروت أن مولدات الديزل تساهم بنسبة 48 في المئة من انبعاثات غازية ملوثة.
كما أن مولداً بقوة 8 سيلندر مثلاً يحتاج إلى نحو 8 صفائح من المازوت يومياً وهو يولد كل 24 ساعة 12000 متر مكعب من الهواء الساخن ما يعني أنه على امتداد لبنان هناك إنتاج هائل للهواء الساخن وللغازات الملوثة المنبعثة من عوادم المولدات.
وتشير الأبحاث إلى أن المولدات الموضوعة في أمكنة مخفوضة ومقفلة تزداد انبعاثاتها وهو الأمر الذي تشهده مدينة بيروت وضواحيها حيث الجغرافية والاكتظاظ السكاني لا يتيحان وضع المولدات في أمكنة مفتوحة وعرضة للهواء.
ومع اضطرار المولدات للعمل لأوقات طويلة بسبب انخفاض أو حتى غياب التغذية بالتيار الكهربائي الرسمي ومع غياب الصيانة عنها وعدم تبديل الفلاتر في شكل دوري واستخدام أنواع من الديزل المشكوك بنوعيته يمكن أن يتبين مدى كثافة الانبعاثات والضرر الذي تسببه هذه المولدات لا سيما في المدن.
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت هواء لبنان مثقلاً بالملوثات وثقيلاً على النفس والصحة. فقد أشارت الملاحظات السريرية للأطباء إلى تزايد حالات الأمراض التنفسية ولا سيما عند الصغار.
ويقول الدكتور رولان واكيم وهو اختصاصي صحة عامة يعمل في عدد من المستشفيات أن تزايد نسبة المشاكل التنفسية بلغ قرابة 30 في المئة أخيراً، رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة نظراً لأن غالبية المصابين ما عادوا يتوجهون إلى المستشفيات والأطباء لتلقي العلاجات بل يقصدون الصيدليات.
وفي حين يمكن التخفيف من أعراض المشكلات التنفسية بواسطة العلاجات الملائمة إلا أن الوضع الحالي في لبنان يعوق الكثير من المرضى من الحصول على استشفاء أو حتى دواء مناسب في ظل عدم وجود تغطية صحية وارتفاع أسعار الأدوية الموثوقة.
طبقة رمادية
إزاء هذا الواقع المأسوي توجهت «الراي» إلى رئيس حزب البيئة العالمي الدكتور ضومط كامل لمعرفة مدى خطورة تلوث الهواء في لبنان وأضراره على الصحة.
وهو إذ طمأن إلى أن الواقع الجغرافي والمناخي يساعد لبنان على الحد من أضرار تلوث الهواء فيه، قال إن «لبنان يتميز بكتل هوائية متحركة غير ثابتة وبجبال خضراء تمتص كميات ضخمة من التلوث وبحر قادر على امتصاص التلوث الهوائي».
قد يبدو الأمر غير منطقي بالنسبة للبعض، لكن الخبير البيئي لا ينفي وجود تلوث كبير في المدن وعلى الأوتوسترادات بسبب حركة السير الكثيفة فيها، كما إلى جانب محطات توليد الطاقة الكهربائية.
ويظهر هذا التلوث على شكل طبقة رمادية تغطي مدينة بيروت وضواحيها وتمتد إلى ارتفاع 300 متر وتظهر بشكل خاص حين تكون الكتل الهوائية ثابتة.
ويعدد الدكتور كامل الأمكنة التي ترتفع فيها نسبة التلوث وتنعكس سلباً على صحة المواطن، قائلاً إن «معامل توليد الكهرباء تشهد احتراقاً يومياً لزيت الوقود الثقيل ما يولد كميات ضخمة من الملوثات تؤثر في شكل كبير على المناطق المحيطة بها وعلى ساكنيها. كما أن السكن إلى جانب مولدات الكهرباء لا سيما تلك التي تقع في أمكنة مخفوضة لا على سطوح المباني أو في أمكنة مغلقة مع عدم وجود صيانة لها يجعل المرء عرضة لتنشق مواد ملوثة يصعب على الهواء أن يحملها بعيداً. كذلك السكن قرب الطرق العامة الرئيسية التي تشهد حركة مرور كثيفة على امتداد اليوم يجعل القاطنين عرضة للتلوث لا سيما في الأيام الجافة التي لا أمطار فيها. وأخيراً بؤر حرق النفايات والمناطق التي تشهد أنشطة صناعية كثيفة مثل مصانع الإسمنت في منطقة شكا الشمالية والتي لم تعد تخضع لرقابة دورية صارمة».
ويلفت كامل إلى مصدر آخر للتلوث في المدن قليلاً ما يتم الحديث عنه أو تقدير أضراره وهو مواقف السيارات الواقعة تحت الأرض أو في أبنية لا نوافذ أو مصادر تهوئة فيها.