وقد أكدت عدة مصادر سياسية أن لودريان لن يأتي بمخارج، ولا يمكنه اقتراح حلول، ويريد فقط أن يستمع إلى وجهات نظر أطراف الأزمة، من خلال أسئلة يطرحها عليهم، وذلك لكي يكوّن فكرة عن الواقع الذي أعقب جلسة الانتخاب يوم 14 يونيو الماضي، والشروط التي يتمسك بها الطرفان.
ويشير المراقبون الى حقيقة أن الدور الفرنسي هو الدور الوحيد الذي بقي فاعلا، بينما تنسحب الأطراف الأخرى مثل الولايات المتحدة والسعودية إلى خلفية المسرح، لأن كلا منها يعرف سلفا أن الشروخ بين الأطراف المتصارعة أكبر من أن تردم.
فالولايات المتحدة تريد إبعاد حزب الله عن دائرة صنع القرار الاقتصادي على الأقل، وتعرف أنها لا تستطيع ذلك. والسعودية تريد أن تنأى بنفسها عن الخوض في مواجهة تؤدي إلى تجديد الصدام مع حزب الله، ما قد يؤثر على التطبيع الناشئ مع إيران. أما الأطراف الأخرى في “اللجنة الخماسية”، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإنها تلعب دور الجالس على مقاعد الانتظار.
والوقائع التي تدفع إلى تعطيل قدرة فرنسا على تقديم مبادرات جديدة، تقوم أساسا على أنها وضعت معادلة للحل (سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية والسفير نواف سلام لرئاسة الحكومة) اتضح أنها غير قابلة للتنفيذ من جانب طرفي الأزمة على حد السواء؛ فالكتلة المسيحية الأكبر لا تريد فرنجية. وبات يتعين على فرنسا أن “تتفهم” الأسباب، فترأب الصدع ذاته مع حلفائها التقليديين. كما أن الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) لا يريد السفير سلام، لأنه “تحد” آخر على المستوى الحكومي.
وبينما يتمسك حزب الله بفرنجية، تحت واقع “إما فرنجية أو لا أحد”، يثير البحث عن شخصية ثالثة إشكاليتين، لا تتعلق الأولى باسمه بالضرورة، وإنما بما يتوجب عليه فعله. وهي إشكالية تعيد وضع حزب الله في منتصف دائرة التعطيل. والثانية، هي أن ثمن تخلي حزب الله عن فرنجية ربما يكون باهظا أكثر من ثمن بقائه، وهو ما يعني أن هذا الحزب سيفرض اشتراطات فوق اشتراطات، لكي يطمئن إلى أنه مازال يتحكم في صنع القرار داخل الحكومة. وهذه إشكالية قادرة بحد ذاتها على إثارة عاصفة من التحفظات داخل الكتلة المسيحية والمجموعات السنية والحزب التقدمي الاشتراكي.
ووفق هذه المعادلة سيؤدي استعصاء المخارج إلى إحباط الداخل والخارج في الآن نفسه؛ لأنه إذا تعذّر التعايش مع فرنجية كخيار، فإنه لا يمكن التعايش مع خيار ثالث يُعدُ ثمن القبول به باهظا من الناحية السياسية.
ولكن ذلك لا يعني بالضرورة، من وجهة نظر القليل من المتفائلين، أن البلاد سائرة إلى الخراب في ظل فراغ طويل الأمد، تلوح في نهاياته مؤشرات الإفلاس الشامل والانهيار التام لمؤسسات الدولة.
تعتبر الفئة القليلة من المتفائلين أن البديل الوحيد المتاح في ظل هذا الاستعصاء يقوم على فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي، أو إقليمي، يجمع بين الأطراف المتنازعة لكي يوفر لها الضمانات ويرسم في الوقت نفسه الخطوط العريضة للإصلاحات المطلوبة.
وعلى الرغم من أن الأعناق اشرأبت إلى باريس، حيث التقى الرئيس إيمانويل ماكرون بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإلى طهران حيث اجتمع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بنظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان، على أساس أن هذين اللقاءين سيتناولان الأزمة اللبنانية، فإن المؤشرات التي لاحت من هاتين العاصمتين لم تدل على وجود اهتمام تفاوضي فعلي خاص بلبنان. فالبيان السعودي – الفرنسي قدم لمحة وجيزة عن ضرورة السعي لإنهاء أزمة الشغور الرئاسي، بينما لم تشر التصريحات السعودية والإيرانية في طهران إلى لبنان، لا من قريب ولا من بعيد.
ومع الظلال القاتمة التي باتت تحيط باسم فرنجية، من المفترض أن يكلف تخلي الكتلة المسيحية عن مرشحها جهاد أزعور ثمنا باهظا أيضا، لجهة تنفيذ البرنامج الإصلاحي.
ويقول المراقبون إن لبّ المشكلة يكمن هنا؛ ففي حين يعتبر حزب الله ترشيح أزعور “تحديا”، رغم كونه مستقلا ورجل خبرات اقتصادية وتربطه بصندوق النقد الدولي علاقات وطيدة بحكم وظيفته (مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق)، يُعدّ تطبيق برنامج الإصلاحات الذي اقترحه الصندوق “التحدي الحقيقي” الذي يرفض حزب الله الامتثال لشروطه. وهو ما يعني أنه لا يريد فرض فرنجية كخيار وحيد فحسب، وإنما يريد فرض مقاربته الخاصة بالإصلاحات الاقتصادية أيضا. وهو ما لن يُرضي جهات الإقراض الدولية.
وتعرف الأطراف الخارجية، المعنية بالأزمة، ما ظل ينتظرها من منزلقات أدت إلى دفع البلاد إلى الهاوية. وهذه المنزلقات تضاعفت بخطاب “التحدي” الذي يفرضه حزب الله. كما أن جلسة الانتخاب نفسها كشفت عن وجود 18 نائبا كان بوسعهم تغيير الميزان، ولكنهم صوتوا للفراغ، تحت التهديد أو عن طريق شراء الذمم، ليؤكدوا أن المخارج باتت مغلقة بإحكام، وأن لودريان الذي تأخر في المجيء إلى بيروت منذ تعيينه في السابع من يونيو الجاري، يعرف مسبقا أن بعثته بلا أمل، وأنه لهذا السبب سيكتفي بطرح الأسئلة التي لا جواب لها.