وإذا كان الجنوب تَحَوَّلَ جيْباً إقليمياً تأسره الاستراتيجيا، فإن عاصمة الشمال صارتْ أشبه بـ «جزيرة» يحتلّها الفلتانُ الذي بَلَغَ أوْجه أخيراً، وخلال شهر رمضان المبارك، فاستدرج خطةً أمنيةً ولو على طريقة «أن تاتي متأخّرة خير من ألا تأتي أبدا».
لم يعُد من مكان لرائحة زهر الليمون في المدينة الأقدم والأكثر فقراً على المتوسط. فرائحة البارود تفوح من يومياتها المسكونة بالشقاء والبؤس، في ظلّ انكفاء الدولة وموت السياسة وطغيان المظاهر الميليشوية في الدساكر والأحياء، بحيث صارت عاصمة الشمال المُسْتَلْقية على حافة البحر أقرب إلى ميناء لـ «تصدير» المهاجرين غير الشرعيين وتجرؤ «القبضايات الجدد» على مزيد من الخروج عن القانون.
مدينة العلم والعلماء وعاصمة الثقافة العربية لعام 2024 تعيش أبشع كوابيسها. ورغم خطة تَدارُك التفلّت المتمادي والتي ساهمت في الشكل بتحسين الوضع على الأرض، فإن «العالم السفلي» للفوضى وجذورها يصعب تَجميله وينذر… بالأسوأ.
لا يكاد يمر يوم إلا ويتداول الإعلام بحادثة أمنية أو إشكال مسلّح تشهده أحياء طرابلس ومحيطها. فالمدينة التي توسّعت و«تريّفت» كما يقول أحد أبنائها، خرجتْ من محيطها المُدني لتتحوّل حلقة ريفية واسعة تَجمع أبناء القرى والمناطق القريبة والبعيدة في بوتقةٍ غير متناغمة تضمّ في أحيائها الشعبية مجموعات من «الزعران» المدعومين والمحميين.
أبناء طرابلس ساخطون مما يجري لكنهم ساكتون عنه مرغَمين تَجَنُّباً لتوريط أنفسهم بالمشاكل والاعتداءات، وعاتبون على رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ابن طرابلس ووزير داخليته بسام مولوي وعلى نواب ثمانية لم يرفعوا الصوت كما يجب.
اشتباكاتٌ مسلحة بين العائلات وبين أزلام أصحاب النفوذ، اعتداءاتٌ بالأسلحة الفردية والسكاكين على المواطنين والمحلات، سرقات متنوعة، فَرْضُ خواتٍ على الناس، التسلّط على الأملاك العامة، ترويع المواطنين وتخويفهم، عدا عصابات تهريب البشر والمواد المتنوعة وتعاطي المواد المخدرة. هذا ما يحدث في طرابلس منذ أكثر من سنة كما أفادنا نائب طرابلس السابق مصطفى علوش الذي يَشهد بأم العين على نتائج هذه الاعتداءات كونه طبيباً جراحاً.
ويقول علوش لـ «الراي»: «إنها حوادث فردية لا علاقة لها بالسياسة، لكن الناس باتوا مقتنعين بعدم وجود دولة في لبنان أو سلطة رادعة تلاحق المعتدين وتضعهم في السجون. وكيف يقتنعون مع وجود مَن يطلق الصواريخ ويقوم بعمليات عسكرية ولا أحد يسائله؟ السلطة اليوم ليست للدولة. ومع وجود ميليشيات مسلّحة، صار كل إنسان يشعر بأنه يمكن أن يَحمل السلاح ويَسرق ويَقتل ولا يحاسبه أحد. المشكلة ليست في أبناء طرابلس وإن كانت الأمور تتخذ دائماً منحى مضخَّماً في المدينة».
ويؤكد نائب طرابلس السابق «أن لا أحد من زعماء المدينة له مصلحة بتخريب الوضع فيها كما كان الأمر في السابق، والحوادث التي تحصل ليست بسبب اللاجئين الفلسطينيين أو السوريين، فهؤلاء قد يقومون بسرقاتٍ موصوفة لكن الإشكالات الأمنية التي تَحدث في المدينة غالباً ما تكون بين مجموعتين تتنازعان النفوذ في حيٍّ ما».
أما حول ازدياد الحوادث الأمنية في شهر رمضان المبارك فيقول «إن الشهر الفضيل رغم كونه شهر تَسامُح ومغفرة إلا أنه لا يحوّل الأزعر متسامحاً، بل يساهم الصيام في جعل ردات فعله أعنف وأقوى لا سيما عند مَن يمتنعون عن التدخين أو تعاطي المواد الممنوعة. كما أن تَضاعُف المصاريف والاحتياجات المادية في شهر رمضان يضاعف ردات الفعل الغاضبة على حالة القلة والعوز».
ويضيف: «لا شك أن الفقر والفوضى وتدهور الأوضاع الاقتصادية وفقدان الأمل عوامل تلعب دورها في انجرار الناس نحو تصرفات قصوى. ويأتي انكفاء القوى الأمنية عن القيام بدورها على خلفية الحالة الاقتصادية ليُفاقِمَ من حالة الفوضى في المدينة. فالعناصر الأمنية التي تكاد رواتبها لا تكفيها تَجِدُ نفسَها غير مستعدّة لأن تُقتل بسبب زعران ولا سيما أن هؤلاء حين يُعتقلون يَلْقون الدعمَ والوساطة لإخراجهم مِن قبل مراجع عليا أو أن لا أمكنة لهم في السجون المكتظة ومراكز التوقيف».
لا ينكر علوش أن الخطة الأمنية التي بدأ تنفيذُها قبل أسبوع وانتشار الجيش في الشوارع في دورياتٍ راجلة ساهم في التخفيف من الإشكالات الأمنية «لكن جذر المشكلة في مكان آخَر، في الوجود الميليشوي المسلّح لحزبٍ يطغى على الدولة ويتحكّم بمفاصلها، والحل الوحيد هو قيام الدولة وعدم وجود ميليشيات مسلّحة تبرّر للآخَرين أفعالهم الإجرامية».
زعران السلطة
وكأن الاعتداءات داخل طرابلس لا تكفي لترويع أبنائها حتى يأتي رصاص التشييع الطائش المتفلّت من مخيم البداوي ليصيب ثلاث ضحايا أبرياء فيها. وقبْلهم سقط جريح في منطقة رأسمسقا القريبة أثناء محاولة سلبه دراجته النارية فيما حدَثَ تَضارُب وعراك بالأيدي نتيجة حادث سير في المحلة ذاتها.
هكذا صار زادُ الطرابلسيين اليومي بحيث باتوا يخشون على أرواحهم وأرزاقهم ويفضّلون غض الطرف عن كل ما يحدث تجنُّباً للتورط في مشاكل الزعران والزمر المسلحة.
سامر أنوس الباحث في معهد طرابلس لدراسة السياسات يؤكد لـ «الراي» أن أهل طرابلس تقاعسوا عن لعب دورهم ولم يقفوا مقابل استباحة شوارعهم وأحيائهم لا بل أعادوا انتخاب السياسيين أنفسهم وحَفِظوا لهم مراكزهم بدل ان يسعوا الى التغيير «في حين ان السلطة تعيش على هذا النوع من الصراعات وتستغلّها لتخويف الناس وتدجينهم، هم الذين اعتبروا يوماً أن بإمكانهم ان يقوموا ضد السياسيين».
ويقول: «السلطة السياسية التي هي جزء من المنظومة، تَستعمل المجرمين والخارجين عن القانون وتؤمّن لهم الحماية السياسية من خلال الأجهزة الأمنية والقضاء ضمن نظام زبائني يتم فيه تَبادُل الخدمات ( للتشبيح) على كل مُعارِض للسلطة. هم مَن أوْجدوا الوحش وغذّوه ودافعوا عنه لمآرب سياسية».
الدور البلدي غائب والأجهزة الأمنية تقوم بما تقدر عليه وأهل طرابلس تأقلموا مع الوضع وتعايشوا معه. لا ينكرون الواقع ولكنهم يحاولون متابعة حياتهم، ومن هنا نرى المطاعم والمقاهي ملأى بالناس ولا سيما في شهر رمضان، والأسواق القديمة تعجّ بالناس، والاحتفالات الرمضانية منتشرة في الأحياء الهادئة. لكن كم يمكن لهذا التكيّف أن يستمر؟
يؤكد د. أنوس أن «طرابلس ضحية الدولة اللبنانية، وهي مظلومة من الدولة المركزية التي لا توليها الاهتمام الكافي. ومن جهة أخرى وَضْعها مرتبط بالتركيبة اللبنانية، وإذا استمر تحلُّل الدولة وحُكْم العصابات فالوضع سائر الى الأسوأ».
نفوذ المولدات وأصحابها
وفي محاولة للغوص أكثر في أعماق ما يحدث في طرابلس من إشكالات وأسبابها على الأرض، توجّهت «الراي» إلى مطّلعين على ما خَفي من واقع المدينة.
جوزيف وهبي، رئيس تحرير جريدة «الدوائر» التي تَصدر في طرابلس، يعيد أسباب الإشكالات الى «مافيات الزعران الذين تربّوا ضمن الأجهزة الأمنية وبات لديهم نفوذ مستقلّ، وأبرز هؤلاء أصحاب المولدات. فكل واحد من هؤلاء عنده ميليشيا مكوّنة من أشخاص وظّفتْهم الأجهزة الأمنية ليكونوا مُخْبِرين لها، لكنهم يتلقون رواتبهم من صاحب المولّد الذي يستقوي بهم فيما هم يأتمرون من الجهاز الأمني الذي لم يعد قادراً على دفع الأموال لهم بعدما فرغ ما يسمى بالصندوق الأسود».
ويضيف: «هؤلاء القبضايات المسلّحون يستخدمهم أصحاب المولدات لمنْع دخول أي طرف ثاني على الحيّ الذي يتحكّمون بتغذيته بالطاقة. وقد تحدث اشتباكات مسلّحة بين صاحب مولد قديم وآخَر يحاول أن يضع مولداً جديداً في الحي! كما أن زعران المولدات يعتدون على كل مواطن تسوّل له نفسه الانتقال الى اشتراك في مولّد آخر». ويوضح وهبي «أن أصحاب المولدات يقدّمون الخدمات للأجهزة الأمنية ومرافقيهم ومحيطهم العائلي، فيما تقدّم الأجهزة الحماية لهؤلاء، في نظامٍ متكامل يصعب على أحد من الخارج اختراقه».
الأمثلة على التعديات في مدينة طرابلس كثيرة فبعض الزمر حوّلوا أرصفة الشوارع العامة مواقف لركن السيارات ويجبرون كل مَن يودّ ركن سيارته على دفع بَدَل، والويل لمَن يحاول التعدي على موقعهم أو مَن لا يدفع. حينها يعتدون على سيارته أو يرشقون محله بالحجارة ويكسرون زجاجه. ويشبّح هؤلاء على أصحاب المحلات و «يشترون» منهم بضائع دون دفع ثمنها.
في الشكل، المدينة هدأت أمورها منذ بضعة أيام، لكن السؤال الذي يطرحه أهل طرابلس هو: هل ستستمر الخطة الأمنية بعد شهر رمضان ويبقى الجيش وقوى الأمن في الشوارع؟
يقول وهبي: «يصعب كبح الزعران، لأن المشكلة تكمن في عدم وجود قضاء لمحاكمتهم، وإذا تم توقيفهم أو محاكمتهم يُسجنون لفترة ثم يَخرجون. السجون ممتلئة ولذا يتم التغاضي عن المُخالفين الذين لا أمكنة لهم في السجن، هذا عدا عن المحميين الذين يتم الضغط لإخراجهم. ففي النهاية المخفر ليس صورةً مختلفة عن البلد، فالقضاء والزعامات السياسية والزعران والموقوفون، كلهم انعكاسٌ لتحلُّل الدولة التام والعام. وثمة غيابٌ سياسي قاتِلٌ عما يَجري وقد يكون شريكاً فيه، وإلا كيف يمكن أن نفسّر أنه حتى اليوم لم يدع رئيس الحكومة الطرابلسي ووزير الداخلية مجلس الأمن الفرعي للبت في وضع المدينة الأمني؟».
سجون مكتظة وملل أمني
أحد أبناء طرابلس الذي فضّل أن يُبقي اسمه مَخفياً، شرح كيف أن المعتدي الذي يتم إلقاء القبض عليه، يسلّم لرجال الأمن مسدساً تركياً زهيد الثمن ويَدخل النظارة لبضعة أيام ليعود ويستعيد سلاحه الأصلي متابعاً اعتداءاته.
بأمّ العين شهد هذا المواطن اشتباكاً تخلّله إطلاق نار بين عائلتين، ولم تصل القوى الأمنية إلا بعد نحو ساعة، وكأن رجال الأمن قد ملّوا التدخل في هذه المشاكل، كما يقول «والدولة ملت من توقيفهم ولا تعرف ماذا تفعل بهم».
ويضيف: «غالبية ما يحدث سببه أشخاص من خارج طرابلس، من محيطها والقرى المجاورة، أما أبناؤها الأصليون فلا مصلحة لهم في المشاكل، إذ كلهم لديهم أملاك وأرزاق يودون الحفاظ عليها فيتجنبون الزعران والمشاكل.»
يلاحظ أبناء طرابلس أن ثمة واقعاً جديد في المدينة. فزعران اليوم ليسوا من رجال الزعماء التقليديين، بل يتبعون للميسورين والأغنياء وأصحاب المصالح الذين يستخدمون هؤلاء ليكونوا أزلاماً لهم يستقوون بهم على الآخرين.
الزعماء السياسيون صاروا دقة قديمة ولم يعد لديهم نفوذ، يَظهرون فقط أثناء الانتخابات ويَستخدمون الزعران كمفاتيح انتخابية لهم. في الماضي كان مَن يطلق النار يختبئ عند زعيم، واليوم يختبئ عند صاحب نفوذ. والمناطق مقسمة بين هؤلاء، وإذا اختلفوا إما يشتبكون بالأسلحة أو تصالحهم الدولة! حتى ترانيم وداع رمضان حوّلوها مصلحة مربحة وبات يتعارك عليها الزعران ليجنوا المال من البيوت. تعاطي الممنوعات منتشر بين هؤلاء و يدفع بهم الى السرقة والتشليح وفرض الخوات تحت أنظار الدولة التي ملت منهم.
فرحة رمضان تجاهد لتُبْقي لها مكاناً في طرابلس، لكن الهدوء والفرح والسكينة ليست في مصلحة الزعران الذين يجاهدون من جهتهم لإبقاء الأوضاع على ما هي. لوحةٌ طرابلسية لا تشبه سواها لكنها تنذر بما هو أدهى ويُخشى أن يمتد على كل لبنان.