منذ عامين برزت “أزمة الطلاب العراقيين في لبنان”، عندما أعلن العراق وقف التعامل مع ثلاث جامعات لبنانية بسبب منحها 27 ألف شهادة “ماجستير” و”دكتوراه” لطلاب طامحين لتقلد مراتب عليا في هرم الدولة.
واليوم، عادت هذه القضية إلى الواجهة مجدداً، ولكن من بوابة توقيف عديد من السماسرة الذين يدفعون الرشوة ويزورون الشهادات والإفادات المصدق عليها، والصادرة عن وزارة التربية اللبنانية، مما يشكل استمراراً لحالة الريبة التي تحيط باستقبال جامعات خاصة آلاف الطلاب في الحقوق وعلم الاجتماع والإعلام والتربية، وغيرها من الاختصاصات التي تدر مئات آلاف الدولارات إلى خزانة الجامعات في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان.
التوقيفات تتوسع
وخلال الأسبوع الماضي أوقفت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بناءً على إشارة النائب العام المالي علي إبراهيم 12 سمساراً وموظفاً يشتبه في ضلوعهم بقضية تزوير شهادات وإفادات لطلاب عراقيين لقاء بدل مالي. وبدأت الشعبة التحقيقات مع الموقوفين والتدقيق الفني بالبيانات الواردة في هواتفهم والتحقق من تزوير الأختام الخاصة بالوزارة وصنع مستندات. وعلى رغم تكتم المصادر الأمنية والتربوية حول مضمون الملف والتذرع بسرية التحقيقات، تشير المعلومات إلى أن التوقيفات شملت موظفين في دائرة التعليم العالي داخل وزارة التربية، وسماسرة يقدمون خدمات لطلاب في “الجامعة الإسلامية” ومندوب جامعة “الجنان”.
من جهته، يرفض المدير العام للتعليم العالي مازن الخطيب الخوض في ملف الملاحقات التي تحصل في إشراف القضاء، لأنه من جهة هناك وجوب احترام مبدأ سرية التحقيق، ومن جهة ثانية “احتراماً لموقعه الوظيفي والإداري والالتزامات القانونية التي تمنع على الموظفين التصريح من دون إذن رئيسه الأعلى”.
إعادة النظر بالشهادات
أنعش حضور آلاف الطلاب العراقيين فروعاً في عديد من الجامعات الخاصة، كما حقق لها مداخيل مرتفعة بالدولار. وإزاء تضخم أعداد خريجي الشهادات، فتحت السلطات العراقية تحقيقاً في الموضوع، كما زار ممثلون عنها بيروت.
في المقابل، أيقنت الجهات التربوية اللبنانية بوجود علامات استفهام حول الأعداد الكبيرة من الطلاب الملتحقين والخريجين في الجامعات الخاصة. وكشفت أوساط المديرية العامة للتعليم العالي في وقت سابق عن أنها بدأت بتدقيق الآلاف من شهادات الطلاب العراقيين المسجلين في الجامعات اللبنانية الخاصة. وجاءت هذه الخطوة إثر التحاق الآلاف بنظام التعليم من بعد وبروز علامات استفهام حول التناسب بين الأعداد الضخمة والحيز المكاني المتاح للتعليم الحضوري في تلك الجامعات، علماً أن تلك الجامعات تستعين بمشرفين من الجامعة اللبنانية بسبب عدم الكفاية لديها من الأساتذة المتفرغين، فيما تحدثت تقارير صحافية محلية عن “رد خمسة آلاف رسالة ماجستير ودكتوراه مقدمة منذ عام 2021 أكثرها بأسماء طلاب عراقيين”، وأن “سبب رفض المصادقة على بعض الشهادات لم يكن نقص المعايير فحسب، وإنما التزوير والتلاعب في وثائق معادلات شهادة الثانوية العامة أيضاً”.
تزوير وأكثر
لا تقتصر الإشكاليات التي يطرحها ما بات يعرف بـ”ملف شهادات الطلاب العراقيين” على الشبهات المثارة إعلامياً وتربوياً، وإنما تتجاوزها إلى تأثير بعض التشريعات في العالم العربي على سلوك المتعلمين، في ظل غياب الحوكمة والشفافية في الأنظمة التعليمية والسياسية. فالقانون الذي سن في العراق وأعطى الأولوية في الترفع وحيازة المناصب لأصحاب الشهادات العليا سرعان ما شكل فرصة استغلها البعض من أجل التسابق لشراء الشهادات الجامعية. فيما جاء الموضوع في شقه اللبناني ليؤكد تراجع المنظومة القيمية والرصانة العلمية لدى جزء من القطاع التربوي.
ويعتقد الباحث التربوي ماجد جابر أن “المشكلة لا تقتصر على تزوير الشهادات للطلاب العراقيين”، لافتاً إلى “وجود مافيا لإنجاز الأبحاث على مستوى واسع داخل الجامعات لقاء بدل مادي بالدولار”. ويقول جابر “لم ينجز عدد كبير من الطلاب العراقيين الأبحاث الخاصة بهم، لأن هناك من تولى المهمة عنهم”، متحدثاً عن مسار تصاعدي، “فبعد تسجيل أعداد كبيرة من الطلاب العراقيين، عينت الجامعات التي تحدث عنها الإعلام مشرفين لأبحاث هؤلاء. وقد أخذ الباحثون على عاتقهم إنجاز تلك الأبحاث مقابل تقاضي مبلغ مالي من الطالب، وتحديداً من طلاب الماجستير والدكتوراه”، مضيفاً “بعد الاتفاق، يقوم المشرف الذي أخذ البحث على عاتقه بتوزيع أقسام البحث على أشخاص متخصصين مختلفين بين متخصصين إحصائيين ومن يتولى الاستبيان، فيما يأخذ مهمة كتابة أحد الأجزاء، حيث يقوم بتوزيع أجزاء من البدل المالي، ويحصل هو على الحصة الأكبر”. ولا يقتصر عمل المشرف على إعداد البحث، وإنما يتجاوزه إلى ترتيب أوضاع المناقشة ضمن اللجان، بحسب جابر، حيث يأتي الطالب للمناقشة والتقاط الصورة، و”أحياناً ينالون رتبة ممتاز أو جيد جداً”. وينبه “أساءت هذه الأمور لسمعة التعليم العالي في لبنان، كما منحت الطالب الميسور مادياً الفرص على حساب الطلاب الفقراء بمن فيهم اللبنانيون”، مضيفاً “بات بعض المشرفين يعطي الأولوية لإنجاز أبحاث الطلاب العراقيين على وجه السرعة”. ويتوجه جابر بالمطالبة إلى الجامعات التي “يقع على عاتقها مسؤولية فتح تحقيقات حول الأبحاث التي أخذ المشرف على عاتقه إنجازها، والتي لم تتوقف عند الاستعانة بخبرة فنية للقيام ببعض الإحصاءات الصعبة، أو تدقيق بالبيانات”، وإنما “تجاوزها إلى كتابة بحث بالكامل من قبل مشرفين أو مكاتب محددة، وكذلك إعداد العرض التقديمي، فيأتي الطالب قبل يومين، يتدرب على المضامين، ويتلوها أمام اللجنة المناقشة”.
أرباح هائلة
يتطرق جابر إلى البدلات المالية التي تتقاضاها المكاتب، أو يتقاضاها المشرفون، منوهاً بأن “البعض حقق ثروات هائلة من وراء تلك الأبحاث”. ويجزم بأن “الأمر لا يقتصر على كتابة أطروحات الدكتوراه، ورسائل الماجستير، وإنما يتجاوزها إلى مشاريع التخرج لمرحلة الإجازة، والأبحاث الفصلية للمواد الجامعية”.
ويستعرض قائمة التسعير لدى هؤلاء “ممن حقق الثروات خلال فترة جائحة كورونا”، حيث “تبدأ مع الأبحاث الصغيرة بـ100 دولار أميركي، أما بحث الإجازة بـ700 دولار، والماجستير بـ1500 دولار، أما الدكتوراه فتراوح ما بين خمسة و10 آلاف دولار أميركي”. ليخلص إلى أن “الأمر يتطلب من الجامعات البدء بالمحاسبة، وإعادة النظر بهيكليتها، ووضع أنظمة داخلية رادعة. وتحرك الدولة لإقرار قوانين تطبيقية لحوكمة البحث العلمي، كتلك التي صدرت عن المجلس الوطني للبحوث العلمية في عام 2016، والتي تتناول الممارسات غير المسؤولة للبحث العلمي مثل الانتحال والتزوير واختلاق النتائج ومخالفة مبادئ الملكية الفكرية”.