منذ قيام إسرائيل عام 1948، لم يعد الجنوب لأهله فقط ولم تعد الدولة صاحبة السيادة المطلقة، فـ”اتفاق القاهرة” عام 1969 الذي شرّع العمل المسلح للفصائل الفلسطينية انتهت مفاعيله بإقامة “فتح لاند” في الجنوب، وفي سبعينيات القرن الـ20، وعلى رغم تأييد أهل الجنوب للقضية الفلسطينية، سرعان ما وجدوا أنفسهم يرزحون تحت وطأة الاعتداءات الإسرائيلية وتجاوزات الفصائل الفلسطينية.
حتى اليوم، يبدو الجنوب أرضاً إقليمية صودف أنها ضمن خريطة لبنان، وعلى رغم كل التحذيرات وإشارات التنبيه التي انطلقت عبر أعوام من الجنوب، ظلت الدولة غافلة عما يجري هناك باستثناء خطابات المسؤولين والمواقف الرنانة.
وبيروت التي كانت تتهيأ لتنفجر عام 1975، استقت من الجنوب بعض فتائل الاشتعال، وعلى رغم تعاون فصائل فلسطينية وأحزاب لبنانية على خوض معركة إسقاط النظام اللبناني لأنه لم يضع كل اللبنانيين على قدم المساواة في الحقوق السياسية، عاد وساد شعور التململ عند قسم كبير من اللبنانيين، بعدما تبين لهم أن تلك الفصائل أصبحت لها اليد الطولى في كل شاردة سياسية وواردة.
وبينما كان رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات يرفع شعار “القرار الفلسطيني المستقل”، بدا وكأنه يريد لنفسه ما لا يريده للبنان، فتمسك بورقة الوطن الممزق أصلاً بالنزاعات، وهو ما إن خرج من ميناء بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وفي خطوة يائسة، عاد بحراً إلى طرابلس بشمال لبنان في إطار تصفية الحسابات بينه ورئيس النظام السوري حافظ الأسد.
وعشية اجتياح 1982، كان يتملك أهل الجنوب وبأكثريتهم الشيعية، السخط والنقمة على ما جلبه عليهم السلاح الفلسطيني من تسلط وقهر، فلسنوات وجدوا أنفسهم تحت وابل القصف الإسرائيلي من جهة، وحكم دولة “فتح لاند” من جهة أخرى. وعلى رغم أن استقبال بعض أهل الجنوب للجيش الإسرائيلي بالرز والورد يومذاك، حالة لا يمكن تعميمها، إلا أنها كانت فرحاً بزوال العسف الفلسطيني أكثر مما كانت ترحيباً بالغزو الإسرائيلي. الوضع في بيروت لم يكن أفضل، ومن يقرأ مذكرات صائب سلام، أحد أهم الزعماء السنة في لبنان، يقع على عشرات الحوادث التي أثارت الشارع البيروتي بسبب تجاوزات السلاح الفلسطيني خلال أعوام الاقتتال.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فكما حمل لبنانيون السلاح منضوين إلى المنظمات الفلسطينية، ها هو السلاح الإيراني ممثلاً بـ”الحرس الثوري” ومنذ الثمانينيات يجد ضالته بميليشيات “حزب الله” التي رعاها، إلى أن أطلق نظام الرئيس السوري حافظ الأسد العنان لها في الجنوب.
ويذكر أن عدداً من القيادات العسكرية في “حزب الله” وحركة “أمل” انتسبت وتدربت مع الفصائل الفلسطينية، ومع منظمة “فتح” خصوصاً، قبل أن تنقلب إلى المنقلب الإيراني وتدخل في معارك طاحنة ضد “العرفاتيين”.
“المشاغلة”
وتحت ذريعة عملياته ضد إسرائيل، وعلى رغم انسحابها من الجنوب في 2000، ما إن حل عام 2005 حتى وصل وهج سلاح “حزب الله” إلى بيروت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان.
ومنذ ذلك الحين يمارس “حزب الله” قضماً ممنهجاً للقرار اللبناني، من “وحدة الساحات” إلى التراجع التكتيكي لمصلحة “مشاغلة العدو”، تقف الحكومة اللبنانية متفرجة ولا تملك في مواجهة “حزب الله” إلا التمني عليه ونقل الرسائل إليه. وبينما يتخوف اللبنانيون من انتقام إسرائيلي مدمر، تبدو الولايات المتحدة في موقف يعكس غرائب السياسة وسخريتها، فـ”حزب الله” يستند إلى الضغط الأميركي الرافض لتوسعة نطاق الحرب ليتمادى في أسلوب “المشاغلة”. وعلى رغم أن هذه “المشاغلة” تترك أثماناً بشرية ومادية باهظة في جنوب لبنان، من الواضح أن الحزب يرتاح إلى هذا السيناريو، ليبني عليه الاستثمار السياسي والأدبيات المعتادة بعد انتهاء حرب غزة.
القرار 1701
في كل الأحوال، سيبقى جنوب لبنان في دائرة الضوء والاستهداف الإقليمي، حتى بعد أن تضع حرب غزة أوزارها، فإن ظل الميدان العسكري مضبوطاً “بالمشاغلة” أو “الإسناد”، أو تطورت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، ثمة شعار سياسي سيطغى بعد غبار الميدان، هو القرار الأممي 1701. هذا القرار الذي قبل به “حزب الله” مرغماً بعد “حرب تموز” عام 2006، ثمة مطالبة لبنانية ودولية بتطبيقه بعدما ضاعت بنوده بفعل خروقات الجانبين، إسرائيل و”حزب الله”.
وعلى طاولة البحث اليوم احتمالات قد يكون لبنان أضعف من تحمّل أي منها. هل يعود القرار 1701 بمعركة عسكرية؟ أم تحييه معركة دبلوماسية عريضة تقودها الولايات المتحدة بين تل أبيب وطهران مروراً ببيروت؟ بالعودة لتجارب الماضي يجب ألا ننسى أن أدبيات “حزب الله” مثل أدبيات حركة “حماس”، لا تقيم وزناً للقرارات الدولية، فلمرات عدة أعلن أمينه العام حسن نصرالله أن القرار 425 الذي نص على انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان لا قيمة له وأن عمليات الحزب وحدها من أجبرت إسرائيل على الانسحاب. من ناحية أخرى، سجل إسرائيل مع الأمم المتحدة حافل بالعصيان وضرب الحائط بنشاطات منظماتها ومقررات جمعيتها العامة أو قرارات مجلس الأمن. إسرائيل التي تذكرت اليوم القرار 1701، إنما تريده مسودة لـ”مطالب إسرائيل” لا تنفيذاً لقرار أممي. و”حزب الله” يريده، كما تحول على مدى 17 عاماً، عاجزاً عن منع تخزين الأسلحة وانتشار المسلحين، وبأن تكتفي “يونيفيل” بالبيانات إذا قتل عناصرها.
تكثر الخطوط في الجنوب، فهناك خط نهر الليطاني الذي يجب ألا يتجاوزه مسلحو “حزب الله” وهناك “خط الهدنة” و”الخط الأزرق” للأمم المتحدة وخط ترسيم بحري وخط أحمر لأكثر من دولة.
كل هذه الخطوط لا ترسم حداً فاصلاً ومتيناً ضد الأطماع.