صحيح أن “حزب الله” خسر جولات عدة قبل هزيمته العسكرية ومن بينها خسارة الأكثرية في الانتخابات النيابية الأخيرة، وعجزه عن انتخاب رئيس للجمهورية، وتفكُّك تحالفاته الوطنية، ولكن الخسارة العسكرية المزدوجة في لبنان وسقوط الأسد تبقى الأهم والأبرز كونها أفقدته القدرة على مواصلة مصادرة قرار الدولة، وبدأت معها خساراته السياسية وعلى الأرض.
فلولا هزيمته العسكرية لكان الشغور الرئاسي ما زال مستمراً. وبالتالي، شكّلت الانتخابات الرئاسية الجولة الأولى لخسائره، وتلتها الجولة الثانية مع التكليف، والجولة الثالثة مع التأليف التي خسر فيها الأكثرية والثلث المعطِّل والتعطيل المالي والمذهبي، والجولة الرابعة مع البيان الوزاري الذي أكد على تنفيذ القرار 1701 كاملاً، أي ضمناً القرار 1559، وبني في فقراته كلها على أساس الدولة ودورها في تحقيق السيادة والدفاع عن لبنان وتطبيق الدستور والقرارات الدولية، وكأنه البيان الأول لجمهورية جديدة بروحية سيادية وإصلاحية.
قبل استخدام سلاحه في 7 أيار 2008 في بيروت، كان “حزب الله”يستخدم أسلوب إقفال الطرقات، بدءاً بوسط بيروت محاصراً السراي الحكومي. ولم تتمكّن الدولة من فك الحصار عن السراي ولا بفتح الطرقات. وبعد 7 أيار لم يعد “الحزب” مضطراً إلى إقفال الطرقات بعدما اعتبر أن رسالة استخدامه للسلاح وصلت ولم يعد هناك من يتجرأ على الوقوف في وجهه.
أشّر إقفال “حزب الله” طريق المطار إلى بعدَين: عودته إلى ما قبل أيار 2008، ولكن مع فارق أن الدولة، وهذا هو البعد الثاني، فتحت طريق المطار. ولم تكتف بذلك، إنما أوقفت للمرة الأولى كل من اعتدى على “اليونيفيل” والجيش والناس والأملاك العامة. وهذا التطور الكبير لم يكن ليحصل لولا هزيمة “حزب الله” العسكرية وسقوط مشروعه مع سقوط الأسد.
أصبح “حزب الله” عملياً يُحصي جولاته الخاسرة، ومطوّقاً من سبع جهات: جغرافيّاً من إسرائيل وسوريا وبحراً وجواً، وحكوميّاً من خلال رئيس جمهورية ورئيس حكومة وأكثرية وزارية ترفض استمرار لبنان ساحة، وعسكريّاً وأمنيّاً عن طريق دولة لا تتهاون مع إقفال الطرقات أو محاولة فرض أمر واقع على الأرض، ونيابيّاً عبر أكثرية تريد تحصين مشروع الدولة، ووطنيّاً وسياسيّاً مع غياب تكتلات وقوى مساندة لمشروعه، وشعبيّاً مع أكثرية سئمت من تغييب الدولة، ودولياً من خلال قرار بإخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني، والإصرار على احتكار الدولة وحدها للسلاح.
أصبح جليّاً لغاية اليوم، أنه حتى المساعدات لإعادة الإعمار مرتبطة بإنهاء مشروع “الحزب” المسلّح. وجاء قطع الجسر الجوي مع طهران ليوجِّه رسالة شديدة الوضوح بأنه ممنوع على “حزب الله” أن يتلقى المال الإيراني الذي يتيح له الحفاظ على تركيبته ورواتبه ومساعداته، أي التركيبة التي تقطّعت أوصالها في الحرب وأقفلت أبواب إعادة ترميمها. وبالتالي، ماذا ينتظر بعد إن أقفل الجسر البري والجوي مع طهران، وبعد أن أصبح مطوّقاً من نتنياهو والشرع، وبعد نشوء معادلة وطنية جديدة لا أولوية لها سوى تطبيق الدستور وإعادة الاعتبار لدور الدولة؟
وفي حال تمسّك “الحزب” بمشروعه المسلّح الذي انتهى على أرض الواقع، فهذا يعني أنه سيواصل عدّ جولاته الخاسرة، إذ لم يعد باستطاعته ربح أي جولة. وكل جولة من الآن فصاعداً، لن تكون لمصلحته في ظل الإطباق الخارجي والداخلي على مشروعه. وبالتالي، سيجد نفسه مضطراً التخلي عن خيار فقد جسوره البرية والجوية، وفقد مقومات استمراره. والأفضل له أن يعلن بنفسه انتقاله إلى العمل السياسي، لأن الخطوات التصاعدية ستدفعه مرغماً بهذا الاتجاه مع كلفة هو بغنى عنها.
لكن الغريب أن “حزب الله” ما زال يتذاكى بعد كل الذي حصل، فيما إسرائيل تواصل استهدافه متكئة على نص وقّع عليه بنفسه. وكان يكفي أن يقرأ جديّاً رسالة الطيران الإيراني ليدرك أن المجتمع الدولي لا يمزح بمسألة تمويله، وليس فقط تسليحه الذي أصبح متعذراً. وفي حال أصرّ على سياساته، بدلاً من أن يوسِّع كوعه وتكويعته، فإنه يعرِّض نفسه للكسر. وهذا طبعاً ليس تهديداً، إنما تحليل موضوعي لمسار الأحداث والأمور والتطورات.
إذا كانت تركيبة البلد السياسية حالت دون خسارة “حزب الله” بالضربة القاضية على رغم أن مشروعه الإقليمي انتهى ومشروعه المسلّح انتهى، فإنه أُعطي فرصة للحد من خسائره من خلال الحفاظ على وضعيته السياسية. ولكن إصراره على مشروعه الذي تمّ حظره دولياً، سيجعله عاجلاً أم آجلاً يخسر بالضربة القاضية. فعليه، أن يقتنع بأن مشروعه انتهى، وأن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لم تعد ممكنة.
من يخسر في الجولات، ولا أمل له بوقف الخسائر، فإنه سيخسر الجولة النهائية حتماً. وانطلاقاً من كلمات أغنية الأخوين الرحباني “إيماني ساطع”، فإن الضربة القاضية “مهما تأخرّت جاية”، وتلافيها يكون من خلال الانخراط في مشروع الدولة الذي “مهما تأخّر جايي”، وقد أخّره “حزب الله” 35 عاماً. ولكن هذا المشروع انطلق، ولم يعد بإمكان “الحزب” تأخير انطلاقته أو إيقافه.