الرايات الزرقاء رُفعت من جديد في المناطق المحسوبة على «أهل السنّة». رفيق الحريري كان بحجم لبنان لكن الطائفة السنيّة تشعر اليوم باليتم أكثر من أي يوم مضى. نعبر كورنيش المزرعة. نعبر مستديرة الكولا. نلتفّ شمالاً صعوداً نحو الطريق الجديدة. ولاء تلك المنطقة الى الشهيد وابن الشهيد يستمرّ كبيراً. تكثر صور سعد مذيلة بعبارة: تسلم هالطلّة. هنا مستديرة الشهيد حسن خالد. هنا قتل الشيخ حسن بن سعد الدين خالد (مفتي الجمهورية اللبنانية منذ العام 1966 حتى وفاته في 16 ايار عام 1989). كم سُكبت دماء في البلد على مذبح الشهادة بأيدٍ ظلّت (عن قصد) مجهولة. هل علينا أن نجدد السؤال ونحن نركن مركبتنا عند المستديرة التي تشلّع جسده عندها: ومن قتل حسن خالد؟ السؤال سيستتبع أسئلة: ومن قتل كمال جنبلاط؟ ومن قتل رفيق الحريري؟ ومن قتل بشير الجميل؟ في مذكرات صائب سلام قال ما قال له الرئيس المصري أنور السادات ذات يوم: إنتبهوا من السوريين.
نجول في الطريق الجديدة بحثاً عن آخر التحضيرات قبيل وصول الشيخ سعد الى لبنان. نسأل الشباب المشلوحين على الطرقات فيجيبنا البعض تلو الآخر: أنا سوري… انا سوري… نحن سوريون… السوريون، في اختصار، باتوا أكثر بكثير من اللبنانيين. نجول على أصداء أغنيات تخرج من مكبرات الصوت: «بيروت عم تبكي مكسور خاطرها /الحجار عم تحكي وينو اللي عمرها». و»يا رفيق العمر الحبيب عالوعد نكمل دربك إنت معنى الحرية وعنوان الإنسانية»… نردد عفواً كلمات الأغنيات ونحن نمشي في الأرجاء.
صور ومكبّرات صوت
صور للشيخ سعد قديمة شلعتها عوامل الطبيعة، وصور جديدة تطلّ من النوافذ والشرفات، ومن على الأعمدة مذيلة بعبارات صيغت للمناسبة المتجددة: «المرجعية شاء من شاء وأبى من أبى». و «أنت أو لا حد» و»عرفوا قيمتك أعداؤك قبل محبيك» و»رجاع ليرجع البلد» و»العدل قليل والظلم كثير» و»دولة الرئيس ما بتلبق لغيرك» و»قلبك عالبلد وقلوبنا معك» و»تعبنا بغيابك» و»رجعتك بترد الروح» و»على العهد والوعد» … بسطة فيها شيء من كل شيء يعمل عليها سوري يقول لنا: لست من هنا لكنني أنتظر الشيخ سعد. نسأله: ومن هو زعيمك في سوريا؟ بشار؟ يبتسم ويدير وجهه خوفا من عدسة التصوير. نروح ونجيء. نسلك الشوارع والأزقة. نقطع الطريق يميناً ويساراً. نقرأ في الصور وفي العيون. كم تغيّر البلد في تسعة عشر عاماً. عاد الى الوراء عقود. يقترب منا شاب في الثلاثين ويقول لنا من دون أن نسأله: سنستقبله غداً كما استقبلناه في أوّل يوم. بلاه لا لبنان. الحيتان من حوله كثيرة لكنه بات يعرف أكثر عدوه من حبيبه.
تمرّ سيارة تضع مكبرات الصوت. تقترب أكثر رافعة علماً فلسطينياً وتضم ثلاثة شباب ملتحفين بأعلام فلسطينية. نصغي الى النشيد الذي يصدح: «عهد الله ما نرحل، عهد الله نجوع ولا نرحل، عهد الثورة والثوار والجماهير ما نرحل، وإحنا قطعة من هالأرض»… نرى المركبة تروح وتجيء على أرض ليست فلسطينية. نتابع بحثنا عن الإستعدادات للترحيب بالشيخ سعد (وصل مساء الأحد). نسأل شاب يراقبنا من بعيد لبعيد في شارع بغدادي في الطريق الجديدة فيجيب: بدّك تسألي الشارع الثاني. نسأله: لكن، هل في الطريق الجديدة شوارع؟ هل هذا الشارع يعيش في المريخ؟ يحنق ويبتعد. نقصد الشارع الثاني. بضعة رجال يجلسون على كراسي قش على الرضيف ويتسامرون. نسألهم عن الحدث الآتي فيغادر الجميع ويبقى واحد. إنه المرشح السابق الى المخترة في المنطقة واسمه عدنان عمر البقيلي ورقم سجله 914 المزرعة. يقول لنا: «أقصدوا مستديرة هناك يجتمع الشباب ويعدون برنامج الترحيب بالشيخ سعد» ويستطرد: «هناك يجلس جماعة طارق الدنا أما أنا فأنتظر تعييني مختاراً مكان المختار أبو طالب (نجم كرة القدم اللبنانية سابقاً محمود محمد برجاوي). هنا (في القانون) من يموت يحلّ مكانه من جاء بعده مباشرة في عدد الأصوات. يفترض أن اركب أنا في المخترة بعد ان تصدر الداخلية قراراً بذلك. مات أربعة مخاتير حتى الآن في المنطقة، ثلاثة سنّة وواحد روم أرثوذكس، عينت جمعية المشاريع المختارين السنّة أما أنا فلستُ تابعاً لأحد. عندي ناسي وأحبائي ومعارفي لكني لستُ محسوباً في السياسة على احد».
محبّو الشيخ سعد
بعيداً عن المخترة والمحسوبيات. كيف تستعدّ الطريق الجديدة الى استقبال الشيخ سعد؟ يجيب المختار الموعود: «نحن لا ننتظر أن يدعونا احد كي نتذكر الشهيد. أنا كنت معه في السراي. كنت مؤهلاً أوّل في الدرك. أما الشيخ سعد فهو آدمي ومن كانوا معه أصبحوا في موقع أفضل منه. في كلِ حال، يجتمع الشباب يومياً ويخرجون في مسيرات تحت توجيه طارق الدنا».
نمرّ من امام محل «أبو علي والـ 40 حرامي». هو بائع دجاج. أمام المحل شاب يُخبر: أنتظر الشيخ سعد بفارغ الصبر» ويستطرد بعلامة إستفهام: «بيقولوا في أكل في بيت الوسط وتوزيع مصاري… شو قولك؟».
تغيّر لبنان واللبنانيون. ننزل في اتجاه مستديرة الدنا. أحد الشباب يقوم بتنجيد فراش لكن «اللي فيه بكفيه» ويأمر «بلا تصوير». سيارة دواليبها الأربعة على الأرض مزنرة بالرايات الزرق وصور الشيخ سعد وشاب يبيع الثياب الرياضية على بسطة يقول: «ما عمنلحق صحافة من العراق والأردن وقبل قليل أتى وفد صحافي من الجزائر وسؤال الجميع عن الطريق الجديدة والشيخ سعد».
في مقاهي إكسبرس ثلاث على الطريق العام، عند مستديرة الدنا، يجلس الشباب ويهندسون ترتيبات اليومين المقبلين. إستراحة أبو حمزة هنا. وإكسبرس أهل بيروت. وقهوة علي دوغان. نقترب من مجموعة رجال فيستبق أحدهم أي سؤال بإجابة ممازحاً: «أنا من بنغلادش ولا أتدخل بعمل الأطباء وبمن يأتي ويغادر». يضحك الجميع عليه ويبدأون في الجدّ: «ننتظر الشيخ سعد على نار وهذه المرة «دخول الحمام ليس مثل الخروج منه». سنطالبه ونلحّ عليه أن يبقى. نحن نريده بيننا ولا بديل منه وسنحميه من أي خطر. لا ولن نخاف من 7 أيار جديد ومن الإحتلال الإيراني الجديد غير المعلن. نحن نريده معنا. نحن معاً أقوى». لكن، ماذا عن نجيب ميقاتي؟ الا يمثلكم؟ يجيب أحدهم: «هو ممثل. هو يمثّل مصالحه الشخصية لا نحن. أما أمل الطائفة الوحيد فهو الشيخ سعد».
نتابع السير. بيك آب أخذ حيزاً من الرصيف مطلقاً الأغنيات الثورية والحماسية. صاحبه محمد علي ياغي يقول: «نخرج مسيرات وندعو العالم الى مناصرة الشيخ سعد». وكم يتقاضى في اليوم الواحد أو في المسيرة الواحدة؟ يجيب: «هذا مجاني لعيون الشيخ سعد، أما الشباب فيجمعون ثمن البنزين فقط. وفي 14 شباط أنا الوحيد الذي يُسمح لي بدخول بيت الوسط. سأكون عند الضريح وسأنتقل الى بيت الوسط. وسأكون في كل مكان يكون فيه الشيخ سعد. هذه مهمتي. وهو بطلي». وماذا عن الأغنيات المنتقاة؟ يجيب: «هي موجودة على الهاتف وكلها معروفة: «يا سعد» و»لما تطل» و»بيروت عمتبكي»… يمازحنا الرجل الموجود على البيك آب الذي يضع الأغنيات بقوله: نضع ايضا أغنية «نصرك هزّ الدني» (للسيد حسن) ويفرط ضحكاً.
أم وابنتها تقفان تحت صورة للشيخ سعد. نسمع الأم تُخبر طفلتها حكاية الشهيد. ننظر يميناً. ثمة رجل لبناني في المقلب الثالث من العمر يختار ما تيسّر من صندوق ليمون في آخر عمره. وحين رآنا ترك الكيس ومشى. لا يريد أن يرى أحد – بالعين المجردة – الفاقة التي يمرّ فيها. ألم نقل تغيّر اللبنانيون – أو ما تبقى من لبنانيين – كثيرا.
وصل الشيخ سعد إلى بيت الوسط. ليس أهل الطريق الجديدة وحدهم من ينتظرونه. هم حفظوا الأمثولة وسينادون: كلنا ناطرينك يا شيخ سعد. لكن، ماذا في 15 شباط؟ اللبنانيون أصبحوا واقعيين أكثر من ذي قبل وإن كانوا ما زالوا يتحمسون للحظة. فلنتركهم يعيشون 14 وبعدها لكل حادث حديث.