هذا ليس سيناريو لفيلم “أكشن”، وإنما رواية مقتضبة لحادثة حقيقية، وقعت نهاراً في 19 أغسطس (آب) الجاري، في منطقة أبي سمراء- طرابلس شمال لبنان. بعد الجريمة، ظهر الفاعل “ع. داهود” في فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معزياً عائلة الضحية “م. البيروتي”. وأشار أنه “كان في وضعية دفاع”، و”أطلق رصاصتين تحذيراً في الهواء، قبل أن يطلق رصاصتين على الضحية الذي كان بدوره يطلق النار تجاهه”، واضعاً الفعل في دائرة “الدفاع عن الأهل”. وفي 22 أغسطس، أصدرت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني بياناً، أعلنت فيه توقيف المواطن (ع.د) في جرد مشمش – عكار على يد دورية من مخابرات الجيش، وذلك بسبب إقدامه على إطلاق النار خلال حفل زفاف في منطقة أبي سمراء- طرابلس، ما أدى إلى مقتل أحد المواطنين. وأشار البيان إلى أنه “بوشر التحقيق مع الموقوف بإشراف القضاء المختص”.
حوادث متكررة
لم تعد هذه الحادثة استثناء في حياة الطرابلسيين، واللبنانيين، فهي تتكرر كل يوم تقريباً في ظل انتشار ثقافة السلاح، واستسهال القتل. فعلى سبيل المثال، أطلق رجل النار على زوجته بسبب خلاف عائلي في منطقة التبانة، ليل 22 أغسطس. وقد سبق هذه الحادثة، ويتبعها العشرات من الحوادث التي تعد مؤشراً على هشاشة منظومة القيم الفردية والجماعية، وخلل في عمل سلطات الدولة الأمنية والقضائية. يقرأ النائب اللواء أشرف ريفي في حوادث القتل المتكررة، وإطلاق النار، ويرى أن “الحوادث لا تقتصر على مدينة طرابلس، فالحادثة المؤسفة التي وقعت في أحد الأعراس شكلت صدمة بسبب الوقائع المرافقة، إلا أنها واحدة من عدد كبير من الحوادث المتكررة على طول الأرض اللبنانية وعرضها”. ويتأسف ريفي لأن “ما يجري هو مؤشر خطير إلى تحلل ما تبقى من هيبة الدولة. فقد وصل لبنان إلى مرحلة صعبة من تحلل المؤسسات الأمنية والقيمية في البلاد”، متخوفاً من الانزلاق إلى مرحلة “شريعة الغاب” في ظل ضعف المؤسسات. حيث يلفت ريفي إلى “الواقع المزري للمؤسسات الأمنية”، “عند وقوع أي حادثة أو جريمة لا تمتلك القوى الأمنية البنزين من أجل انتقال الدورية لقمع المخالفة أو توقيف الفاعلين”. ويضيف ريفي عاملاً إضافياً يتهدد الاستقرار، ألا وهو “السماح لعناصر القوى الأمنية بالقيام بعمل مدفوع آخر لأن الدولة لا تمتلك القدرة على تأمين حاجاتهم”، وهذا أمر خطير برأي المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي، لأنه “من الناحية الأمنية لا يمكن أن يكون للعنصر ولاءين، ولاء للدولة، وولاء لصاحب العمل الآخر. ولكن هذا يجري بسبب الظروف الراهنة للبقاء على قيد الحياة”.
يعتقد ريفي أن هناك أسباباً مختلفة لهذه الجرائم، يبقى أهمها السلاح المنتشر بين الناس أسباب ثقافية. وكذلك لوجود ميليشيات في البلاد، تلك التي خاضت الحرب الأهلية، أو المستمرة في امتلاك السلاح غير الشرعي. ويقر أن “المشكلات الأهلية بين جبل محسن والتبانة، شكلت سبب إضافي لانتشار السلاح بين أيادي الشبان”.
رواج المسدس التركي
يشكل المسدس التركي أحد الأسلحة المفضلة لدى شريحة كبيرة من الشباب في لبنان بسبب ثمنه المنخفض، إذ يؤكد بعض الشباب أنهم “امتلكوا مسدساً بأسعار بخسة تتراوح بين 180-200 دولار أميركي”، و”هو مبلغ سهل المنال، فيما يحتاج أحياناً لـ10 أضعاف ذلك لشراء مسدس أوروبي أو أميركي”. ويعتقد أشرف ريفي أن هذا المسدس هو شكل من أشكال السلاح المختلفة والمنتشرة بين الناس، التي يحصل عليها الأفراد بطرق مختلفة أغلبها غير شرعية، معترفاً بالدور السياسي واعتبارها أداة من أدوات الزبائنية السياسية. ويؤكد “أننا أمام مشكلات معقدة، والحل لا يكون إلا من خلال حل المشكلات السياسية، وإعادة تكوين السلطة، وانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة فاعلة، وتقوية المؤسسات الأمنية”، معتبراً أنه “ريثما نصل إلى الحل الشامل، ليس للبناني إلا التمسك بمؤسسة الجيش اللبناني التي تعد الملجأ الأخير في ظل الانهيار”.
تمييع القانون
يشكل تشريع امتلاك السلاح الفردي خارج القوى العسكرية النظامية استثناء في لبنان. ويشير العميد المتقاعد ناجي ملاعب أن “قانون الأسلحة والذخائر يمنع استيراد السلاح أو الاتجار به إلا لصالح القوى المسلحة والأمنية النظامية. وفي حال ضبط السلاح، لا بد من إحالة الفاعلين إلى المحاكمة الجمركية، وتغريم الفاعل، لأن المستورد لم يستورده لصالح الجيش اللبناني أو القوى الأمنية”.
يتحدث ملاعب عن مصدرين للسلاح المنتشر بين الأفراد على نطاق واسع، أما المصدر الأول فهو “المناطق الخارجة عن القانون، والحدود غير المقيدة مع سوريا، إضافة إلى المخيمات الفلسطينية، ومناطق انتشار المقاومة”، إضافة إلى “الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها من خلال نهب مخازن السلاح، خلال مرحلة الحرب الأهلية 1975-1976”. وهذه الأسلحة هي سبب أساسي للمشكلات الأهلية والمتنقلة، حسب ملاعب.
ثقافة السلاح المنتشر
يسلط العقيد ملاعب الضوء على “ثقافة إطلاق الرصاص في المناسبات الاجتماعية المختلفة بسبب عدم تطبيق القانون، لأنه لو طبق لمرة واحدة، لكان رادعاً للمخالفين والظاهرة”، و”القيم الشائعة بأن السلاح زينة الرجال، وتنافس العائلات في امتلاك السلاح”. كما يتطرق إلى بدعة رخص السلاح في لبنان التي تعود سلطة منحها في النموذج الحربي إلى وزارة الدفاع، أما سلاح الصيد فلا بد من اللجوء إلى وزارة الداخلية والبلديات، ويتساءل “كيف تعطى رخص السلاح دون التدقيق، هل هو مسروق من مخازن ومستودعات وثكنات الجيش خلال الحرب الأهلية”؟ و”كذلك منح رخص الأسلحة بطرق عشوائية وعلى شكل “تنفيعات”، مستهجناً “منح رخص لأسلحة على بياض دون تحديد نوع السلاح، إذ تدون عبارة (سلاح مختلف). وعليه، يمكن بموجبها للشخص امتلاك أي سلاح والتجول به، ويتذرع الشخص بالرخصة لتبرير انتقاله عبر الحواجز العسكرية”.
يضع ملاعب “رخص الأسلحة التي تمنح لبعض أنصار الأحزاب ضمن لعبة الزبائنية السياسية”، إذ “يسعى كل وزير لإرضاء الزعماء، ويوزع الرخص بهذه الطريقة الشائعة”. كما يلفت إلى التحايل على القانون، من خلال تنسيق الأحزاب السياسية مع المخافر لتسليم أشخاص غير مطلقي السلاح، تمهيداً لإخراجهم بسبب عدم وجود شهود على إطلاق الرصاص.
يكرر ملاعب تأكيده على حصرية استيراد السلاح للقوى الأمنية الشرعية، ويوضح “يمكن للدولة استيراد السلاح من خلال الشركات الخاصة من خلال عقود رسمية”. ناهيك عن “الحصول على السلاح في شكل هبات من جهاز أمني إلى آخر وهذا أمر شائع”.
يجزم ملاعب بوجود قيود تمنع دون الوصول حالياً إلى “الأسلحة الشرعية” في لبنان، بسبب اعتماد استراتيجية “إحصاء السلاح الأميري، وختمه بالأرزة لأنه خاص بأحد أفراد السلطة العسكرية، وعند ضبطه يصادر بصورة مباشرة، ويفتح تحقيق لاكتشاف كيفية وصوله إلى الأفراد”. ويعتقد ضرورة تعديل القانون، تمهيداً لمنح رخص مدروسة على غرار الدول المتطورة، وإلزام ممتلك السلاح شروطاً معينة كالتدريب في مراكز خاضعة لسيطرة الدولة، أو وضع قيود على استخدام السلاح مكانياً وزمنياً.