تعمل السعودية على العودة بقوة إلى التأثير في قضايا المنطقة بما يناسب وزنها، بعد ما سببه خيار الإهمال من نتائج سلبية على دورها في الملفات الإقليمية. وتقوم هذه العودة على استبدال النفوذ المتنامي لتركيا وقطر خاصة بعد السيطرة على سوريا، وكذلك على استبدال نفوذ إيران في منطقة الهلال الخصيب والاستفادة من خسائرها في سوريا ولبنان والضغوط المسلطة عليها في العراق.
لكن متابعين للشأن السعودي يرون أن مغامرة العودة إلى الواجهة تحتاج إلى الكثير من رباطة الجأش والإمكانيات والقدرة على بناء شبكة علاقات في الدول التي تشهد التنافس مع تركيا وقطر أو مع إيران.
وتعمل السعودية على تعطيل النفوذ القطري والتركي في سوريا التي تعتبر دولة مهمة لأمن المملكة وللخيارات التي تريد أن ترسيها في الإقليم عبر النفوذ المالي والاستثماري السخي، من أجل تأمين موطئ قدم في قلب الهلال الخصيب ما يمكنها من قطع الطريق أمام التمدد الإيراني نحو لبنان وإفشال خطط طهران لتسليح حزب الله وحركة حماس ومجموعات إسلامية أخرى مثلت ورقة تفاوض إيرانية قوية لسنوات مع الولايات المتحدة.
لكن دخول سوريا في الوقت الحالي معقد أمام المملكة. وكان بالإمكان أن يكون الأمر سهلا لو سرّعت السعودية علاقاتها مع بشار الأسد خلال فترة الانفتاح العربي على دمشق قبل سقوط النظام بسنتين ولم تكتف بالانفتاح الدبلوماسي المحدود وعملت على إنقاذه بالدعم المالي المباشر والاستثمارات.
ورغم أن الرياض تعرف أن أنقرة والدوحة قد سعتا لتأمين حكم الإدارة الجديدة المدعومة منهما في سوريا عبر الدعم السعودي، فإنها تدرك أن ذلك لا يفتح أمامها أبواب سوريا. وسيكون المدخل هو الاستثمارات والحضور القوي للشركات والمشاريع السورية لمعرفتها أن السوريين لا يريدون سماع الشعارات وهم يبحثون عمن يقف في صفهم للخروج من أزمة عميقة ومتعددة الأوجه.
وما يعترض خطط السعودية لدخول سوريا وكسب نفوذ يمكّنها من مزاحمة القطريين والأتراك، قبل الحديث عن الاستبدال، هو أن أنقرة والدوحة نجحتا في التأسيس لنفوذهما قبل أكثر من عشر سنوات، ولهما أفضال على منظومة الحكم الجديدة في دمشق والفصائل المسلحة التي تسندها، ومن الصعب تحقيق اختراق سعودي في حال لم تجد الرياض شركاء أو حلفاء على الأرض في سوريا.
ويمكن أن تتحرك السعودية لإحياء شبكة علاقاتها مع المجموعات الإسلامية التي دعمتها في معركة إسقاط الأسد قبل أن تتراجع عن تلك الخطوة في منتصف الطريق لحسابات سعودية تقوم على تجنب الغرق في حرب مفتوحة يمكن أن ترتد نتائجها على المملكة التي كانت قد بدأت للتو حربا أخرى في اليمن.
وفي حال فكرت في هذا الخيار ستجد الرياض نفسها أمام تناقض بين حاجة مصالحها في سوريا إلى إسناد الإسلاميين وبين إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي تقوم على دعم مسار الاعتدال ومواجهة نفوذ الإسلاميين في المملكة والإقليم، وهو الخيار الذي بنى عليه مسار انفتاحه على الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
ولا يريد السعوديون أن تقف خطتهم عند واجهة معيّنة، ومثلما يسعون لاستبدال النفوذ التركي – القطري يعملون بالتوازي على دخول المنافسة مع النفوذ الإيراني في لبنان والعراق.
ويمثل الوضع الحالي في لبنان فرصة كبيرة أمام السعودية لتنفيذ ما تريده في ضوء انتخاب رئيس جديد واختيار رئيس حكومة غير محسوب على حزب الله. كما أن البلد في حاجة إلى تمويلات واستثمارات عاجلة والجميع يرى في الرياض جهة التمويل الأساسية، وهي فرصة لتمرير شروطها السياسية، ولا يُعرف ما إذا كانت ستستمر في التعاطي الوديع مع من تمتعوا بدعمها ثم اصطفوا وراء حزب الله.
ويُتوقع أن تسعى المملكة إلى إعادة بناء تحالفها مع السنة التقليديين في لبنان، بمن في ذلك بقايا تيار المستقبل الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وإن كان الحريري نفسه قد بات خارج حساباتها بسبب تطبيعه مع نفوذ حزب الله في فترات سابقة. كما يتوقع أن تدعم أحزابا وشخصيات مسيحية راغبة في النأي بنفسها عن حزب الله، حتى وإن كان حجمها صغيرا ونفوذها محدود في المرحلة الحالية، وذلك ضمن سياق خلق البدائل لضمان إستراتيجية الاستبدال.
يضاف إلى ذلك دعم الجيش اللبناني من خلال التبرعات المالية والتنسيق الأمني الذي سيكون له دور فعال في تأمين النفوذ السعودي ومنع عودة حزب الله إلى التأثير الميداني ولو من وراء الستار.
ويُنتظر أن يتحرك السعوديون باتجاه العراق لاستثمار حالة الإرباك العامة التي يشهدها النفوذ الإيراني هناك، ما يوفر للمملكة فرصة الاختراق سواء باستقطاب مجموعات أو شخصيات مناوئة لإيران وبعض الجماعات الشيعية الأقل انسجاما مع طهران، أو من خلال تشجيع حكومة محمد شياع السوداني على الابتعاد التدريجي عن طهران.
ومن المرجح أن تستثمر الرياض في قطاع الطاقة العراقي -الذي عانى لفترة طويلة من النقص المزمن- وفي القطاع الخاص الأوسع نطاقًا لكسب الدعم الشعبي والسياسي المحلي، فضلاً عن تقليل اعتماد بغداد على إيران في الحصول على الكهرباء.
وكانت السعودية والعراق قد وقّعا في الرابع من نوفمبر الماضي مذكرة تفاهم بشأن التعاون العسكري والدفاعي، اعتبرتها وكالة الأنباء السعودية الرسمية “خطوة مهمة إلى الأمام،” وذلك في أعقاب مذكرة تفاهم في يوليو 2022 لربط شبكات الكهرباء بينهما، بهدف تزويد العراق بألف ميغاواط من الطاقة.
وخلال السنوات الأخيرة سعى السعوديون للتقارب مع العراق سواء بشكل رسمي أو عبر قنوات ثانوية باستقبال شخصيات معتدلة لإظهار أن الرياض لم تتخل عن العراق، لكن المعضلة تكمن في مدى قدرتها على الصمود في وجه ردود الفعل من الميليشيات الموالية لإيران، وما إذا كانت ستنسحب أمام أول إرباك أم أنها ستتحمل الردود المنتظرة مثلما يحصل للوجود الأميركي في العراق.
ويرى مراقبون أن تراجع إيران لا يعني أن الطريق صار مهيأ أمام السعودية لتنفيذ خطة الاستبدال؛ فالأمر يتطلب سنوات من الاستثمار المالي والسياسي والعلاقات العامة، وهو ما ينطبق على مسألة التأثير في سوريا أمام نفوذ مالي وإعلامي وحظوة متينة للقطريين والأتراك.