“نَجَونا من الطيران، ولكن لم ننجُ من السرقة والدمار الشامل” بهذه الجملة يختصر سامر الذي عاد إلى الضاحية الجنوبية لبيروت المشهد الذي تكشف بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، حيث تفاجأ بأن منزله المتضرر تعرّض إلى السرقة بعد خلع أبواب الحديد. على رغم ذلك، يتفاءل الشاب خيراً، فوضعه أفضل بكثير نسبياً من عائلات خسرت بيوتها بالكامل، وباتت مضطرة للبحث عن مأوى بديل موقت بعد نزوح طويل، ريثما تثمر “خطة إعادة الإعمار” التي لم ترَ النور حتى الساعة بانتظار تطورات وقف إطلاق النار.
أما في الجنوب، فإن هول الدمار فاجأ الكثيرين، وتحديداً في القرى الأمامية (المحاذية للحدود)، فعندما عاد حسن إلى بلدته “بيت ليف” (في قضاء بنت جبيل في جنوب لبنان)، لم يجد إلا أكوام الركام، ونسوة يجلسن فوق ما تبقى من منزل مدمر، وعلى مقربة منهن صور لضحايا سقطوا في المواجهات بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي. لم تتمكن السيارة من إكمال الطريق داخل القرية، فاضطر لشق طريقه إلى منزله بين الشهود على الكارثة التي حلت، فهناك امرأة ترثي فقد أشقائها الذين رحلوا في ريعان الشباب، ورجل يبحث تحت بيته المهدم عن أغراض تنعش ذاكرته وتبقيها حية. وفي الأرجاء منازل تشهد على شدة المعارك، وما تبقى منها ينتظر الهدم.
الصدمة الأولى
امتص الجنوبيون الصدمة الأولى التي خلفها الدمار، وبدأ يحضر السؤال عن إعادة الإعمار، والكلفة، والجهة التي ستتكفلها، ومصير الأهالي ممن فقدوا كل شيء، وحتى بيوتهم. تباينت المواقف لدى العائدين، البعض منهم فكر بالعودة إلى مراكز الإيواء السابقة، والبيوت المستأجرة، ولكن آخرين أصروا على البقاء، حيث رمموا ما أمكن بطرق بدائية، حيث اكتفوا بما تبقى من سقف يؤويهم في القرية، وأغلقوا النوافذ بألواح خشبية، مفضلين البقاء على النزوح مجدداً.
وأبلغ قسم من النازحين “اندبندنت عربية” أنهم سيبقون موقتاً في البيوت التي استأجروها، ريثما تنطلق عملية إعادة الإعمار، أو إصلاح ما أمكن من البيوت. ولفتت إحدى السيدات إلى “عدم الثقة بكلام الإسرائيلي، حيث اعتاد على الغدر”، مضيفةً أنها قبل التأكد من وقف إطلاق النار لن تعود وتعرض حياة طفليها إلى الخطر والصدمات المتكررة، لأن المكان الذي استأجرته في عكار هو “أكثر أماناً” على حد تعبيرها. في المقابل، قسّمت عائلات أفرادها في بعض الحالات، حيث عاد بعضهم إلى المنزل في القرية لمحاولة إصلاحه، فيما بقي الأب في البيت المستأجر في منطقة المنية (شمال لبنان) لأن العائلة دفعت الأجرة مسبقاً لأشهر عدة مقبلة.
وبين هذا وذاك، يبقى الخوف من المجهول قائماً لدى الأهالي، ففي حال طال الوضع من دون إزالة الدمار وإطلاق عملية إعادة الإعمار، قد يصبح الأمن الاجتماعي أمام خطر جدي.
من يعيد الإعمار؟
حتى الساعة لم تخرج حكومة تصريف الأعمال في لبنان برئاسة نجيب ميقاتي بأية خطة أو كلام واضح عن إعادة إعمار ما تضرر، لكن مصادر مقربة من السراي الحكومي كشفت أنه سيتم وضع خطة لإعادة الإعمار فور التأكد من أن وقف إطلاق النار مستدام، وأن لا عودة إلى الحرب التي كانت قائمة في الشهرين الماضيين. ويحدد المصدر مهلة أسبوع أو 10 أيام قبل أن يبدأ بحث الملف بشكل جدي في الحكومة ومع الجهات الدولية المعنية والموفَدين الدوليين.
ويسود انطباع واسع أن عملية إعادة الإعمار متوقفة على حسن تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الحالي، الذي تم التوصل إليه برعاية أميركية- فرنسية وموافقة لبنانية- إسرائيلية. وتبقى مهلة الستين يوماً هي الفيصل، نحو ميل متزايد للحديث عن هدنة طويلة، تطفئ شرارة النزاع في المدى المنظور. كما تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى تمويل ومموّل لديه الملاءة الكافية، وبالتالي إلى الحاضنة العربية الدولية على غرار ما جرى في عام 2006، عندما حظيت الحكومة التي رأسها فؤاد السنيورة، بحاضنة عربية ودولية وتدفقت الهبات من السعودية وقطر والكويت والإمارات، وبعض الحلفاء الغربيين بصورة أساسية. وأمّنت تلك الدول التمويل لخطة إعادة الإعمار، التي نجحت في تثبيت أهالي الجنوب، والضاحية في أرضهم.
وترى أوساط كتلة “التنمية والتحرير” التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري (رئيس حركة أمل)، أنه “لا توجد خطة جاهزة لإطلاق عملية إعادة الإعمار، ذلك أنه لم تمر سوى أيام على اتفاق وقف إطلاق النار الذي يتوقف على تطبيقه مستقبل التسوية”.
وتحدث النائب السابق علي درويش عن توقعات الحكومة بشأن إطلاق عملية إعادة الإعمار في الوقت الراهن، معتبراً “أن لبنان سيمر في مرحلة الشهرين، حيث يتولى الجيش اللبناني تثبيت وجوده في الجنوب”، مشيراً إلى أنه “حتى اللحظة لا توجد مبادرة لإعادة إعمار لبنان، ولكن مع مرور الوقت ستتبلور هكذا مبادرات واضحة المعالم بعد استقرار الوضع، وتنفيذ قرار وقف إطلاق النار”. ولفت درويش “قد يلعب مجلس الجنوب دوراً في وضع الخطط، إلى جانب الهيئة العليا للإغاثة، والجيش اللبناني الذي تولى سابقاً مهمة مسح الأضرار في أعقاب انفجار مرفأ بيروت”.
وجزم درويش بأنه “حتى الساعة، غير معلوم الجهة التي ستتولى مهمة إعادة الإعمار، وقد نكون أمام إنشاء هيئات جديدة، أو أن تقوم بالمهمة المؤسسات القائمة”، متوقعاً “حركة مكوكية على خط الدول المانحة، ونحو الأشقاء الخليجيين، ورعاة الاتفاق الدوليين كالجانبين الأميركي والفرنسي، من أجل منح فرصة لإعادة الإعمار”.
ورد درويش على “التشكيك المستمر في أهلية وفاعلية ونزاهة المؤسسات الرسمية اللبنانية في إدارة ملف كبير كملف إعادة الإعمار”، قائلاً “خلال الحرب الحالية، أثبتت المؤسسات الحكومية قدرتها، حيث استقبلت ووزعت المساعدات الآتية من المجتمع الدولي والمانحين للنازحين، لذلك لا يمكن التشكيك بالمؤسسات العامة التي تمتلك شبكة منتشرة على مختلف الأراضي اللبنانية”.
وأوضح درويش أن “عمليات إعادة الإعمار ستنصب على المنازل وشقق الأفراد، وقد نجت مؤسسات الدولة اللبنانية من هذه الحرب، وستبدأ عملية المسح قريباً بواسطة مؤسسات تابعة للحكومة، خلال الفترة المقبلة”.
عراقيل كثيرة في الأفق
في غياب الثقة بالسلطات اللبنانية، ستعاني عملية إعادة الإعمار من عراقيل كبيرة. وصرح الخبير الدستوري الدكتور علي مراد أن “لبنان حظي حتى عام 2006، باحتضان عربي لأنه كان جزءاً من المنظومة العربية وكان على وئام مع تلك الدول في المرحلة التي تبعت اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، إلا أن ضرب ‘حزب الله’ علاقات لبنان العربية كان له الأثر السلبي على الموقف العربي”. وجزم بأنه “لا يمكن لأي كان أن يطالب الدول العربية بتمويل إعادة الإعمار من دون إعادة النظر في تموضع البلاد السياسي وانحياز الدولة اللبنانية و’حزب الله’ إلى المحور الإيراني”، لافتاً إلى توجيه “رسائل جدية عربية” نحو لبنان، ونيتها مساعدته والوقوف إلى جانبه، “وهذا الأمر يلقي بعبئه على الدولة اللبنانية للمبادرة واتخاذ قرارات استراتيجية تخرج البلاد من تحت العباءة الإيرانية، وإعادة التوازن للسياسة الخارجية من أجل الابتعاد عن الصراعات الإقليمية”.
إعادة الإعمار في “علم الغيب”
وشهد لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية على محاولتين لإعادة الإعمار، وليس من قبيل المبالغة القول بأنها “جرت بمباركة حريرية” نسبة لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري وترِكته السياسية، التي كانت ترتبط بعلاقة قوية مع السعودية وفرنسا وأميركا ودول عربية أخرى. وجاءت عملية إعادة الإعمار الأولى في أعقاب الحرب الأهلية، مع إطلاق ورشة العمل في بيروت خلال عام 1993، ومن ثم عملية إعادة الإعمار عقب حرب يوليو (تموز) 2006، على يد حكومة السنيورة. ويقارب الدكتور مصطفى علوش القيادي السابق في “تيار المستقبل” (يتزعمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري) معالم الاختلاف بين الوضع الراهن، والمرحلة السابقة التي حظيت بحاضنة عربية ودولية، معتبراً أن “إعادة الإعمار حاضراً ما زالت في علم الغيب بسبب سلاح الحزب”.
واسترجع علوش حقبة التسعينيات “عندما تسلم رفيق الحريري دفة إعادة الإعمار في لبنان على خلفية حرب أهلية طويلة أنهكت الأطراف اللبنانية، وكان هو يحضر لهذه المرحلة على مدى عقد من الزمن”.
وقال علوش، “أتى الحريري بدعم دولي وخليجي على أساس أن السلام على الأبواب، فكانت الأبواب مشرّعة له دولياً وإقليمياً على الأقل في السنوات الأولى قبل أن تتغير توجهات المنطقة ويصبح السلام المنشود بعيد المنال. وبالنهاية اغتيل بسبب مشروعه المدعوم دولياً لتضاربه مع المشاريع المرتبطة باستمرار حال الصراع”.
قارب علوش مرحلة ما بعد حرب يوليو 2006، مذكراً بأن “فؤاد السنيورة كان على رأس الحكومة التي تمكنت من إدارة فترة حرب 2006، بحكمة وقدرة، وكانت تتمتع بثقة دولية وعربية مما سمح لها باستحضار المساعدات. لكن وهج ‘حزب الله’ وضع جزءاً من هذه المساعدات تحت تصرفه”، مشدداً على أن “اليوم اختلفت الأمور بشكل جذري، فلا حكومة ثابتة دستورياً، ولا رئيس للجمهورية، ولم يسلم الحزب حتى الآن بزوال سطوة سلاحه، مما يعني أن مسألة إعادة الإعمار ومموليها ما زالت في عالم الغيب”.
ولفت علوش إلى أنه “لا يبدو حتى هذه اللحظة أن أي مؤسسة أو دولة مانحة تستعد للتمويل. كما أن الجهة التي ستتولى إدارة الإعمار في ظل عدم الثقة بنزاهة الهيئات اللبنانية التي تولت الأمور في السابق لا تزال مجهولة”، ليصل إلى استنتاج بأن “علينا أن ننتظر الأسابيع المقبلة لنرى كيف تتطور الأمور”.
خطة لمعالجة الركام؟
وخلفت الحرب الحالية دماراً هائلاً في لبنان، وأصابت الضربات الإسرائيلية بنية المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية للحزب، حيث يواجه مليون إنسان خطر المبيت خارج منازلهم، وتحدي إطلاق الأعمال وتأسيس منشآت اقتصادية والمصالح التجارية من نقطة الصفر.
وفي غياب المسح الميداني، لا يمكن معرفة حجم الخسائر على وجه الدقة، ويبقى اللجوء إلى المؤسسات البحثية والبلديات. وقدّر رئيس بلدية برج البراجنة (تقع ضمن الضاحية الجنوبية لبيروت)، عارف منصور، “عدد المباني المدمرة بالكامل في الضاحية وحدها 400 مبنى، إضافة إلى 250 مبنى آخر آيل للسقوط”.
وبحسب الدولية للمعلومات، فإن الخسائر المباشرة للحرب الأخيرة فاقت خسائر حرب 2006، إذ قاربت الـ 11.2 مليار دولار أميركي، بفعل دمار قرابة 46 ألف وحدة سكنية، وهو أمر مرجح للارتفاع بفعل دمار طاول قصوراً فخمة في قرى يارون وميس الجبل والخيام، فيما بلغت قيمة الخسائر 5.3 مليار دولار في عام 2006، علماً أن وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام تحدث في مقابلة خاصة مع “اندبندنت عربية” عن خسارة فاقت 15 مليار دولار تعرضت لها الدولة اللبنانية.
في السياق، يشكل المسح الميداني، وعملية إزالة الركام وإعادة التدوير، خطوة أولى لعملية إعادة الإعمار، ووضع خطة متكاملة للتعويض عن المتضررين، وبدء عمليات التلزيم لإصلاح البنى التحتية والخدمات الأساسية، حيث تفتقر مناطق الجنوب إلى الماء والكهرباء والاتصالات. وتحدث الخبير في مواجهة الكوارث، ميشال صليبا عن مقدمات إعادة الإعمار، وضرورة القيام بمسح المساحات المدمرة، وفحص المواقع المستهدفة خشية وجود ذخائر غير منفجرة، وصولاً إلى تدعيم المباني المصنفة تراثية وأثرية للحفاظ على الذاكرة الجماعية، إضافة إلى تحديد المباني التي تحتاج إلى هدم أو القابلة للترميم، وإعادتها صالحة للسكن”.
إعادة الإعمار “مدخل الإصلاح”
وجاءت لافتة خطوة رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدعوة إلى جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من يناير (كانون الثاني) 2025، ضمن فترة الستين يوماً لوقف النار، وكأن به يشير إلى أنها جزء من توافق دولي كبير، يمكن أن ينعكس لاحقاً في حال تنفيذ كافة الخطوات بجدية على إطلاق إعادة الإعمار.
ورأى الخبير الدستوري علي مراد أنه “لا يمكن الفصل بين إطلاق عملية إعادة الإعمار، والسياق الذي ولِد فيه اتفاق وقف إطلاق النار”، مؤكداً “الحاجة لإعادة الاعتبار إلى المؤسسات الدستورية والقيم الديمقراطية التي نص عليها اتفاق الطائف والدستور الحالي”، معتبراً أنه “في أعقاب حرب 2006، وبدءاً من عام 2007 عطل ‘حزب الله’ النظام السياسي اللبناني، وهو يتحمل مسؤولية الشغور في ثلاث ولايات رئاسية، وتعطيل المجلس النيابي، وإدارة السلطة من خلال حكومات تصريف أعمال، ناهيك عن تعطيل القضاء”. من هذا المنطلق، اعتبر مراد أن “انتخابات رئاسة الجمهورية لم تعد شأناً داخلياً لأن الرئيس الذي سيأتي توافقياً وفق الموازين التي أفرزتها الحرب، سيشكل إحدى الضمانات لاحترام وقف إطلاق النار، والتزامات الدولة اللبنانية”. كما تطرق مراد إلى “وجوب أن يترافق ذلك مع فتح نقاش حول سلاح الحزب، والخروج من ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، لمصلحة سلطة واحدة آمرة هي الدولة التي تحتكر القوة والسلم”. وشدد على أن “إعادة الإعمار يجب أن ترتبط بنموذج غير زبائني، ومبني على معايير علمية ومبادئ العدالة، وليس كما كان سائداً منذ الحرب الأهلية اللبنانية”.