بجوار شجرة أرز لبنانية زرعت في مقبرة “أرلينغتون” بولاية فرجينيا الأميركية دفن 21 جندياً من قوات المارينز، من أصل أكثر من 241 آخرين، توزعت جثامينهم على مقابر تسع ولايات أخرى، يحيا فيها كل عام ذكرى أكبر مقتلة حلت بمشاة البحرية الأميركية في زمن السلم، وذلك لتأكيد خلود رسالتهم التي كانوا يؤدونها في لبنان كخلود شجر الأرز الذي يتفرد به ذلك البلد.
فقبل 40 عاماً، في فجر الـ23 من أكتوبر (تشرين الأول) 1983، اقتحمت شاحنة محملة بالمتفجرات، مقر مشاة البحرية في مطار بيروت حيث الثكنة الأولى للكتيبة الثامنة فريق الهبوط. وسقط على إثر ذلك الهجوم 241 عنصراً من قوات المارينز، 220 منهم جنود و21 من موظفي الخدمة، وقدرت المتفجرات المستخدمة فيما بعد بما يعادل 9500 كيلوغراماً من مادة “تي أن تي” (TNT) المتفجرة.
وفي ذلك الوقت كان 300 من موظفي الخدمة يقيمون في بناء من أربع طبقات في مطار بيروت، ونحو 1800 جندي في العاصمة اللبنانية، وكانت القوات الأميركية حينها موجودة ضمن قوات متعددة الجنسيات، منها فرنسية وبريطانية وإيطالية، في مهمة لحفظ السلام في البلد الذي اندلعت فيه حرب أهلية دامية منذ عام 1975. وفي وقت تعرض فيه مقر مشاة البحرية للهجوم في بيروت اقتحم انتحاري بشاحنة أخرى محملة بالمتفجرات مقراً لإقامة المظليين الفرنسيين، مما أسفر عن سقوط 58 منهم.
بصمات إيرانية
وعقب التفجير تبنت مجموعة باسم “حركة الجهاد الإسلامي” (التي سبقت في الظهور المنظمة الفلسطينية التي تحمل الاسم ذاته حالياً) مسؤولية الهجوم، وهي إحدى الميليشيات الشيعية العاملة في لبنان آنذاك، إلا أن تقارير أميركية وغربية اعتبرت أنها التنظيم الذي هيأ لولادة “حزب الله”، وأن مؤسسها هو القيادي في الحزب عماد مغنية. وأثبتت التحقيقات أن سائق السيارة التي ضربت مقر المارينز كان مواطناً إيرانياً يدعى “إسماعيل عسكري”، وأن مقر “حركة الجهاد الإسلامي” كان في بعلبك، وأنها أنشئت من إيران، بحسب قول الأميركيين، لطرد إسرائيل والولايات المتحدة من لبنان، بعد أربع سنوات من نجاح الثورة في طهران.
ورداً على التفجيرات أطلقت القوات الفرنسية صواريخ عدة على مواقع “الحرس الثوري الإيراني” في سهل البقاع، في حين كانت البارجة الحربية “نيوجيرسي” وصلت إلى شواطئ بيروت منذ سبتمبر (أيلول) 1983 لكنها لم تقم بأي رد انتقامي حتى الـ14 من ديسمبر (كانون الأول) 1983، يوم أطلقت 11 قذيفة باتجاه أهداف في ضواحي بيروت. ولاحقاً أطلقت على مدى تسع ساعات متواصلة حوالى 300 قذيفة على أهداف للحرس الثوري و”حزب الله” في البقاع، قبل أن تنسحب القوات الأميركية من لبنان في الـ26 من فبراير (شباط) 1984.
وأنكرت إيران أية علاقة لها بهذه الحركة وشككت صحيفة “نيويورك تايمز” في وجودها أصلاً، وكتبت “إن مصادر الشرطة اللبنانية ومصادر المخابرات الغربية ومصادر الحكومة الإسرائيلية وكبار الزعماء الدينيين الشيعة في بيروت، جميعهم مقتنعون بأنه لا يوجد شيء اسمه الجهاد الإسلامي”، ومع ذلك تبنت الحركة عمليات إرهابية عدة في لبنان وغيره من البلدان، ومنها تفجيرات السفارات في الكويت في ديسمبر (كانون الأول) 1983، وعملية اغتيال رئيس الجامعة الأميركية في بيروت مالكوم كير في الـ18 من يناير (كانون الثاني) 1984، وكانت آخر عملية تبنتها الحركة هي تفجير مقر السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس في مارس (آذار) 1992.
ملاحقات مستمرة
ومنذ أشهر طلبت السلطات الفرنسية من الادعاء العام اللبناني اعتقال شخصين يشتبه في تورطهما في تفجير عام 1983 في بيروت، الذي أسفر عن مقتل عشرات الجنود الفرنسيين. كما حدد الطلب هوية المشتبه بهما وهما يوسف الخليل وسناء الخليل، وطلب من الادعاء العام اللبناني احتجازهما واستجوابهما، ثم إبلاغ السلطات الفرنسية بالنتيجة.
وفي عام 2012 حكم قاض فيدرالي في واشنطن على إيران بدفع أكثر من 813 مليون دولار كتعويضات لأسر ضحايا الاعتداء، وكتب حينها القاضي “رويس لامبرت” في حكمه، “بعد هذا القرار تكون المحكمة دانت إيران بأكثر من 8.8 مليار دولار في أحكام تتصل باعتداء عام 1983 في بيروت”. وأضاف أن “إيران تسجل درجة مرتفعة في دعمها للإرهاب”، لافتاً إلى أن “عدداً من القضايا الأخرى التي تتصل باعتداء بيروت لا تزال تنتظر وإنهاؤها سيزيد حتماً هذا المبلغ”.
“ضحايا السلام”
في السياق يقول رئيس “حزب السلام” اللبناني روجيه إده إن “المقصود من تفجر مقر مبعوثي السلام الأميركيين والفرنسيين، كان حينها تخريب عملية السلام في الشرق الأوسط، وضرب مساعي السفير الأميركي لإخراج جميع الجيوش الأجنبية من لبنان من دون استثناء، إذ كان الجيشان السوري والإسرائيلي يحتلان أجزاء واسعة من لبنان كذلك منظمة التحرير الفلسطينية”.
وأشار إلى أن “هذه العملية الإرهابية كانت أولى عمليات الحرس الثوري الإيراني الواضحة التي كانت تخطط للدخول إلى الدول العربية وإنشاء الميليشيات تحت شعارات القضية الفلسطينية”، لافتاً إلى أن “هذه المهمة كانت تهدف إلى استنفار العالم الإسلامي للالتفاف وراء إيران التي أرادت إعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية”.
ورأى إده أن “ما بدأه الإيرانيون منذ 40 عاماً لا يزال مستمراً اليوم وهذا تكشف عنه المعلومات عن طريقة تفاوضهم ورسائلهم السرية والباطنية. كيف يفوضون الغرب وإسرائيل بأسلوب يوحي أنه صادق ويمكن البناء عليه، إلا أنهم لا يوفرون لحظة للغدر وضرب تلك الثقة التي تم الإيحاء بها”، مشيراً إلى أن “هذا الأسلوب بات معروفاً بمصطلح التقية الذي بات مرتبطاً بعملهم الدبلوماسي”.
تحقيق العدالة
من ناحيته رأى الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية الدكتور الفرد الرياشي، أنه “على رغم مرور 40 سنة على الهجوم الإرهابي، فإن الولايات المتحدة لن تطوي تلك الصفحة الدموية”، لافتاً إلى أن “هكذا أمور بالنسبة إلى الأميركيين لا تبقى مجرد ذكرى سنوية إنما هي مسعى إلى تحقيق العدالة”.
واعتبر الرياشي أن “هناك بعض المتورطين بهذه العملية لا يزالون من دون عقاب في حين أن آخرين قتلوا في ظروف غامضة”، مشدداً على أن “أميركا حافظت على علاقاتها المميزة مع لبنان لأنها تدرك أن ليس اللبنانيون جميعاً يؤيدون الاعتداء على الجيش الأميركي”، وأكد أن “أجهزة الاستخبارات الأميركية لديها كل المعلومات عن الجهات والأفراد المتورطين بالتفجير الإرهابي”.
إحياء الذكرى
وفي مناسبة ذكرى مرور 40 عاماً على التفجير، نشرت السفارة الأميركية في لبنان على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، شريط فيديو يظهر جنوداً أميركيين وهم يزرعون 241 غرسة أرز، نسبة إلى عدد ضحايا التفجير.
ولفتت السفيرة الأميركية في لبنان ”دوروثي شيا” في كلمة خلال إحياء الذكرى، إلى أن “قبل 40 سنة، كان الشعب اللبناني في منتصف طريق الحرب الأهلية المروعة، التي أدت إلى مقتل عشرات الآلاف ودفعت ما يقارب مليون لبناني إلى الفرار من منازلهم”، مذكرة بأنه “بناء على طلب الحكومة اللبنانية شكلت الولايات المتحدة، إلى جانب حلفائنا الفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين، قوة جديدة متعددة الجنسيات، للمساعدة في استعادة السيادة الكاملة على بيروت وكل لبنان، أو كما قال الرئيس الراحل رونالد ريغان في ذلك الوقت، لضمان “السماح للشعب اللبناني برسم مستقبله”، وهذا طموح لا نزال نتمسك به.
وأوضحت شيا “هكذا في عام 1982 وصل 800 عنصر تقريباً من مشاة البحرية الأميركية (المارينز) إلى بيروت، لقد جاؤوا إلى جانب زملائهم من الجنود الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين بسلام، للمساعدة في ضمان سلامة الشعب اللبناني ووضع حد للعنف المأساوي”.
وركزت على أن “هؤلاء المارينز الأميركيين كانوا شباباً أمامهم مستقبل مشرق، ولديهم التزام عميق بخدمة بلدهم والقيم التي نعتز بها كأميركيين ولبنانيين”، مبينة أنه “عند الساعة 6:22 من صباح يوم الـ23 من أكتوبر 1983، قبل لحظات قليلة فقط من الموعد المقرر لمنبه الصباح، قطع مستقبلهم المشرق في غضون ثوان، إذ قاد انتحاري شاحنة مملوءة بالمتفجرات إلى المقر وقام بتفجيرها، في هجوم نفذ بدعم من إيران. وتحول المبنى إلى أنقاض”.
وأكدت السفيرة الأميركية “إننا نرفض، والشعب اللبناني يرفض، تهديدات بعضهم بجر لبنان إلى حرب جديدة. ونحن مستمرون في نبذ أية محاولات لتشكيل مستقبل المنطقة من خلال الترهيب والعنف والإرهاب”، مشيرة إلى “أنني هنا أتحدث ليس فقط عن إيران و”حزب الله”، بل أيضاً عن حركة “حماس” وآخرين، من الذين يصورون أنفسهم كذباً على أنهم “مقاومة” نبيلة، الذين من المؤكد أنهم لا يمثلون تطلعات أو قيم الشعب الفلسطيني، في حين أنهم يحاولون حرمان لبنان وشعبه من مستقبلهم المشرق”.
ولفتت إلى أن “شعار مشاة البحرية الأميركية هو “الإخلاص دائماً”، واليوم بعد مرور 40 سنة على تفجير مقر مشاة البحرية، نحن مخلصون إلى الأبد لذكرى هؤلاء الجنود البالغ عددهم 241 جندياً وجميع هؤلاء، أميركيين ولبنانيين وغيرهم، ضحوا بحياتهم لدعم السلام”.
وأعلنت شيا “إننا مخلصون أيضاً إلى الأبد لقيمنا ومبادئنا، وهي القيم والمبادئ نفسها التي أتت بقوات مشاة البحرية الأميركية إلى هنا في الثمانينيات، التي أعرف أننا كأميركيين ولبنانيين نتقاسمها اليوم. أولئك منا الذين يخدمون هنا اليوم، يواصلون العمل يومياً لتعزيز تلك القيم، ولنكن قوة إيجابية من أجل السلام والاستقرار والوحدة الوطنية في لبنان، واليوم على وجه الخصوص نفعل ذلك تخليداً لذكرى أولئك الذين دفعوا الثمن الباهظ”.