وسط الاضطرابات المتفاقمة التي يشهدها الشرق الأوسط، تعود قضية الدروز إلى الواجهة بوصفها نموذجا معقدا لأقلية دينية تمتد عبر جغرافيا متشظية، وتحتفظ في آن بهوية متماسكة وشبكة مصالح سياسية متفاوتة بين لبنان وسوريا وإسرائيل.
وعلى الرغم من عددهم المحدود الذي لا يتجاوز المليون نسمة، نجح الدروز في ترسيخ حضور سياسي واجتماعي يتجاوز وزنهم الديموغرافي، وذلك بفضل مزيج من الخصوصية العقائدية، والانضباط المجتمعي، والانخراط الانتقائي في السلطة.
ونشأت العقيدة الدرزية في بدايات القرن الحادي عشر، من رحم المذهب الإسماعيلي، لكنها سرعان ما شقت لنفسها طريقا فريدا يقوم على باطنية شديدة، وتعاليم لا تُباح إلا للمطلعين من أبناء الطائفة، ما جعلها منغلقة معرفيا ومتماسكة مجتمعيا.
ويشكل الإيمان بالتقمص أحد ركائز هذه العقيدة، إلى جانب سبع وصايا توجيهية تمارس عبر طقوس جماعية أسبوعية ومناسبات روحية متفرّدة.
ولم تكن هذه الخصوصية الروحية عبئا على الحضور السياسي، بل شكلت إحدى أدواته، إذ ساعدت الطائفة على الحفاظ على تماسكها، وعلى فرض نوع من “الحصانة الرمزية” داخل المجتمعات التي تعيش فيها.
وسمح انتشار الدروز في مناطق جبلية متداخلة في سوريا ولبنان وفلسطين التاريخية والأردن، لهم بالحفاظ على علاقات عابرة للحدود، شكلت بدورها شبكة اجتماعية ـ سياسية غير رسمية. فمن جبل لبنان إلى جبل العرب، ومن الكرمل إلى الجولان، حافظوا على شعور بالانتماء يتجاوز حدود الدول، وهو ما تؤكده السجلات التاريخية كما توثقه تحركات اليوم، غير أن هذا التداخل الجغرافي لم يترجم إلى خطاب سياسي موحد، بل كانت سياسات الدروز دائما انعكاسا للواقع المحلي وتوازناته.
وفي لبنان، كان الزعيم كمال جنبلاط تجسيدا للدور الذي يمكن لأقلية متماسكة أن تلعبه ضمن مشهد طائفي مركب.
ومثّلت زعامته نموذجا لحضور فاعل يتجاوز الانعزال الطائفي، قبل أن يتحول اغتياله عام 1977 إلى لحظة مفصلية في تموضع الدروز داخل النظام اللبناني.
وفي إسرائيل، وعلى خلاف سائر العرب، اختار الدروز مسار الاندماج الكامل في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الخدمة العسكرية، ما منحهم وضعا قانونيا وسياسيا خاصا، لكن بثمن اجتماعي أثار نقاشا طويلا حول الهوية والانتماء.
وأما في سوريا، فشكّلت محافظة السويداء مركز الثقل السكاني والسياسي للطائفة، وبرزت فيها شخصيات ثورية تاريخية مثل سلطان باشا الأطرش، قبل أن تنكفئ الطائفة عن الاصطفافات الحادة في الحرب السورية، ساعية إلى تجنب الانزلاق في صراعات مدمّرة، غير أن هذا الحياد لم يصمد طويلا.
وفي أعقاب سقوط النظام السوري، ووسط تحولات أمنية غير محسوبة، تفجرت اشتباكات دامية في مناطق درزية، لاسيما في السويداء وضواحي دمشق، أسفرت عن مقتل العشرات، ودفعت بإسرائيل إلى التدخل عسكريا، بما يكشف مجددا مدى حساسية الموقع الدرزي في الخارطة الإقليمية.
وتباينت ردود الفعل بين الأطراف الدرزية: الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، المعروف ببراغماتيته السياسية، حذر من “حرب لا تنتهي”، بينما تبنّت قيادات دينية ومسلحة في سوريا خطابا يوحي بالاندماج الكامل في السلطة الجديدة، في حين دعا رجال دين في الجولان إلى حماية الجماعة في وجه الانهيار الأمني المحتمل.
ولا يعكس هذا التباين فقط اختلاف المواقع الجغرافية، بل أيضا تعدد الأجندات السياسية وتنافس المرجعيات الروحية.
ويرى مراقبون أن هذه التفاعلات تعكس ما يمكن تسميته “صراع الظل” بين زعامات درزية في ثلاث دول، تتنازع على تمثيل طائفة تسعى إلى البقاء لا على هامش الأحداث، بل في قلبها، ولكن بشروطها.
وأثبتت الطائفة تاريخيا، قدرتها على التكيّف مع السلطة دون أن تذوب فيها، وعلى استثمار الهامش دون الاصطدام بالجدار. لكن اللحظة الراهنة تبدو مختلفة، إذ تتزامن تحولات سياسية كبرى مع انفجار سرديات الهوية والانتماء، ما يفرض على الدروز تحديا وجوديا مزدوجا: الحفاظ على الذات في الداخل، وصياغة خطاب موحد في الخارج.
ولا يعد الصراع الديني أو السياسي هو المحور الوحيد، بل تتحول المعركة إلى صراع سرديات: أي دروز يمثلون “الطائفة”؟ وأي نموذج للعيش المشترك يصلح لإدارة التنوع دون استغلاله؟ الإجابات لا تزال غامضة، ولكن المؤكد أن ما يحدث في السويداء أو الجولان أو الشوف لم يعد شأنا محليا، بل صفحة من مشهد إقليمي أعقد، تُسطره جماعة صغيرة بحجمها، كبيرة بتأثيرها، تبحث عن مستقبل متوازن في منطقة لا تتسامح كثيرا مع الهويات الوسيطة.
وفي قلب مشهد مشرقي معقد يتشابك فيه التاريخ بالجغرافيا، تبرز مسألة الطوائف كإحدى السمات البنيوية التي أسهمت في تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية للمنطقة.
ولم تكن الطائفية مجرد انتماء ديني، بل تحولت، مع الزمن، إلى إطار تنظيمي وسياقي للبقاء والمشاركة في السلطة.
ومع الانفجار الكبير الذي شهدته المنطقة عقب الانتفاضات العربية، دخلت الطوائف، ومنها الدروز، في دوامة جديدة من إعادة تعريف الذات. فالمعادلات القديمة لم تعد كافية لضمان الاستقرار، والهويات التي بدت صلبة في السابق، باتت تواجه تحديات متسارعة فرضها الواقع الأمني والسياسي المتبدل.
ولم تعد العلاقات التاريخية وحدها تكفي لتفسير الاصطفافات، كما لم تعد الزعامات التقليدية قادرة على احتواء التناقضات الداخلية بين الأجيال الجديدة، التي باتت تطالب بأدوار تتجاوز منطق الطائفة كملاذ أو كيان مغلق.
وفي هذا المشهد، تتحول الطوائف إلى ما يشبه الكيانات المعلقة بين زمنين: زمن الحماية الذاتية، وزمن المواطنة الكاملة، وبينهما تبرز أسئلة حادة عن المصير والهوية والتمثيل.
من هنا، لا يمكن فهم التفاعلات السياسية والاجتماعية التي تحكم مسار الطائفة الدرزية اليوم، دون العودة إلى هذا الإطار الأوسع من تشكل الطوائف في المنطقة، والتغيرات التي طرأت على موقعها ووظيفتها. فما يبدو أحيانا كاختلافات محلية بين دروز لبنان وسوريا وإسرائيل، هو في حقيقته جزء من صورة أعمق، تتقاطع فيها سرديات البقاء مع تحولات الدولة، وتتصارع فيها مرجعيات متعددة على تمثيل جماعة تسعى إلى تثبيت وجودها، لا كأقلية منكفئة، بل كفاعل واع لشروطه، ومدرك لموقعه في منطقة لا ترحم الترددات الهوياتية.
وبين الثابت والمتغير، تظل الطائفة أمام اختبار مفتوح، تحكمه معادلات القوة كما تحكمه روايات التاريخ، في انتظار لحظة توازن لا تزال بعيدة المنال.