وهذا المطلب كان متكررا على مدى سنوات لأهالي المفقودين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وأبصر النور بعدما أجمعت الجمعية العامة، مساء الخميس، على إنشاء “المؤسسة”، بأغلبية 83 صوتا من أصل 193 دولة مقابل 11 ضده وامتناع 62 عن التصويت.
ويشير القرار إلى أنه “بعد 12 عاما من النزاع والعنف” في سوريا “لم يحرز تقدم يذكر لتخفيف معاناة عائلات” المفقودين.
ولذلك قررت الدول الأعضاء أن تنشئ “تحت رعاية الأمم المتحدة المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية، لجلاء مصير ومكان جميع المفقودين” في سوريا. وأورد نص القرار أنه سيتعين على “المؤسسة المستقلة” أن تضمن “المشاركة والتمثيل الكاملين للضحايا والناجين وأسر المفقودين”، وأن تسترشد بنهج يركز على الضحايا. ط
لكنه لا يحدد طرق عملها، فيما سيتعين على الأمين العام للأمم المتحدة تطوير “إطارها المرجعي” في غضون 80 يوما بالتعاون مع المفوض السامي لحقوق الإنسان.
ووفق البيانات التي تتيحها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تبلغ حصيلة المختفين قسريا في سوريا ما لا يقل عن 111907 شخصا، بينهم 3041 طفلا و6642 سيدة (أنثى بالغة).
وهؤلاء لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ مارس 2011 حتى أغسطس 2022، والنظام السوري مسؤول عن قرابة 86 بالمئة منهم، حسب الشبكة الحقوقية.
ما أصداء التصويت؟
يأتي قرار إنشاء “المؤسسة” نتيجة ضغط مكثف مارسته عائلات المفقودين، إلى جانب مجموعات ومنظمات لفتح هذا الملف والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرا في سوريا، منذ عام 2011.
ويتزامن مع اتجاه العديد من الدول لفتح أبوابها الموصدة مع النظام السوري، وخاصة العربية، مع خفوت الأصوات المؤكدة على قضية المعتقلين والمختفين قسريا لدى النظام السوري، حسب ما يقول حقوقيون لموقع “الحرة”.
وأشادت المفوضية السامية عبر حسابها في تويتر “بالمبادرة التي تشتد الحاجة إليها”، مضيفة: “للعائلات الحق في معرفة مصير ومكان وجود أقاربها للمساعدة في مداواة جراح المجتمع كله”.
من جهته، قال المسؤول في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، لويس شاربونو: “يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ضمان حصول هذه المؤسسة الجديدة على الموظفين والموارد اللازمين”، مردفا: “الشعب السوري لا يستحق أقل من ذلك”.
كما يدعو قرار الجمعية العامة الدول و”كل أطراف النزاع” في سوريا إلى “التعاون الكامل” مع المؤسسة الجديدة.
وقالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد الخميس، إن “الضحايا ليسوا فقط من تم سجنهم وتعذيبهم وقتلهم”. وتابعت: “الضحايا هم أيضا عائلاتهم وأقاربهم”، مشيرة إلى فقدان “أكثر من 155 ألف شخص”.
وأشار بيان للاتحاد الأوروبي إلى أنه دعم هذه المبادرة لفترة طويلة، موضحا أنها “إنسانية هامة، وتجلب الأمل لآلاف العائلات التي تبحث عن إجابات حول أحبائهم المفقودين”.
بدورها، وصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا قرار إنشاء المؤسسة بـ “التاريخي”. وقال رئيس اللجنة، باولو بينيرو في بيان الجمعة، إن هذه الخطوة طال انتظارها من قبل المجتمع الدولي “وجاءت أخيرا لمساعدة عائلات جميع من اختفوا قسرا وخُطفوا وعُذبوا واُحتجزوا في الحبس التعسفي بمعزل عن العالم الخارجي على مدى السنوات الـ 12 الماضية”.
وأضاف أن العائلات “تُركت بمفردها في بحثها عن أحبائها لفترة طويلة جدا”، مشيرا إلى أن هذه “المؤسسة ضرورة إنسانية وتكمل الجهود نحو تحقيق المساءلة”.
ماذا يقول الحقوقيون؟
ومن خلال إنشاء مؤسسة تركز على قضية المفقودين بالذات، يمكن للأمم المتحدة مساعدة عائلاتهم في العثور على بعض الإجابات التي يستحقونها، وخاصة من داخل غياهب معتقلات النظام السوري.
ومع ذلك وبينما رحّب حقوقيون سوريون بهذه المساعي، إلا أنهم في المقابل حذّروا من “رفع سقف التوقعات”، ولاسيما أن الكثير من الخطوات الشبيهة سابقا لم تصل إلى الحد الذي يضمن للضحايا وعائلاتهم العدالة.
وقالت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في بيان وصل لموقع “الحرة” إنها تعتقد بأهمية دور وعمل الآلية المشكلة حديثا، وبأنّ لديها الكثير لتعمل عليه، ولتدعم وتناصر ملف المفقودين في سوريا، ولتضعه كملف أساسي ضمن أجندة جميع الدول كقضية مركزية تمس الملايين من الشعب السوري.
لكنها أضافت في المقابل: “نحذّر من خطورة رفع سقف التوقعات من هذه الآلية على أهالي المفقودين والمختفين قسريا”.
وأوضح بيانها: “يجب علينا أن نشير إلى المهام التي بإمكانها القيام بها والمهام التي لا يمكنها أن تقوم بها معا، وألاّ يتم التركيز فقط على ما يمكنها القيام به”.
“إنَّ الآلية المشكلة سوف تقوم دون شك بحشد الجهود الحقوقية السورية والدولية لدعم ملف المفقودين، وربما تتمكن من بناء قاعدة بيانات مركزية، وسوف تشكل منصة يمكن لعشرات الآلاف من أهالي المفقودين التواصل معها، لكن دورها لن يكون الإفراج عن المعتقلين تعسفيا”.
وتابع بيان الشبكة الحقوقية: “نعتقد بشكل جازم أن النظام السوري وبقية أطراف النزاع لن يتعاونوا معها، مما يعقد من مهامها في الكشف عن مصير المفقودين، كما أن ولايتها لن تنص على محاسبة مرتكبي الانتهاكات”.
ويؤكد على ذلك مدير رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، دياب سرية، متحدثا عن تحديات تعترض آلية عمل “المؤسسة المستقلة”، سواء في داخل البلاد أو من الخارج.
ويوضح سرية لموقع “الحرة” أن “التحدي الداخلي يتعلق بمدى إمكانية دخولها لسوريا من أجل البدء بالمهام، مع رفض النظام السوري لها وهو ما بدا على لسان مندوبه في الأمم المتحدة، بسام صباغ”.
وكان صباغ قد اعتبر أن القرار “يعكس بوضوح تدخلا سافرا في شؤون سوريا الداخلية، ويشكل دليلا إضافيا على استمرار النهج العدائي لبعض الدول الغربية”، مشيرا بالخصوص إلى الولايات المتحدة.
كما ندد بـ”إنشاء آلية غريبة غامضة المعالم، لا تورد أي تعريف محدد لمصطلح المفقودين، مجهولة الأطر الزمنية والحدود الجغرافية”، وحذر من أن ذلك يشكل “سابقة” قد تتكرر مستقبلا في شأن دول أخرى، لا سيما النامية منها.
وقد يدفع موقف النظام “المؤسسة” للعمل من الخارج، وهو ما يراه سرية تحديا آخر، و”يجعلنا حذرين من رفع سقف التوقعات”.
لكنه يضيف: “يمكن للمؤسسة أن تعمل خارجيا من خلال تجميع البيانات والتوثيق وتحديد مواقع المقابر الجماعية”.
وما سبق سيكون مبنيا بالأساس على “عمل المنظمات الحقوقية السورية النشطة في ملف المفقودين والمختفين قسريا”.
ويشير الحقوقي السوري إلى أن الجمعية العامة أعطت 80 يوما من أجل وضع “الإطار المرجعي ومهام المؤسسة المنشأة حديثا”.
ومن المرجح أن يعتمد “الإطار المرجعي” بشكل أساسي على “دراسة وضعها مجلس حقوق الإنسان قبل قرابة عامين، وعلى المشاورات مع بعض الضحايا والدول، ومع النظام السوري نفسه”.
ويتابع سرية: “سيكون من مهام المؤسسة الدخول إلى سوريا، لكن هذه الخطوة مربوطة بموافقة النظام السوري بنفسه، ولا أظن أن الأخير سيتعامل معها، كونه غير قادر على الهرب من الآليات التي قد تستهدف انتهاكاته وجرائمه”.
“لن تطلق سراح المعتقلين”
في غضون ذلك يؤكد مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني أنه “يجب ذكر ما يجب أن تقوم به المؤسسة المستقلة وما ستعجز عنه، كي لا يشعر السوريون بأمل زائف”.
ويقول لموقع “الحرة”: “نرى مبالغة في دور الآلية وهي كارثة وقعنا فيها خلال السنوات الماضية. هذا الأمر يضر بالقضية أكثر ما يفيدها”.
“المؤسسة المستقلة لن تتمكن من إطلاق سراح المعتقلين وهذا ليس دورها، والنظام غالبا لن يتعاون معها، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية أطراف النزاع”.
ويضيف عبد الغني: “يجب ذكر ما سبق كي لا يتولد لدى الناس أمل بإطلاق سراح المعتقلين”، لافتا إلى وجود آليات أممية ولايتها أعلى من المؤسسة الحالية.
ومن هذه الآلية “لجنة التحقيق الدولية التي لم تتمكن من فعل شيء لقضية المعتقلين خلال السنوات الماضية”، حسب الحقوقي السوري.
“هناك إيجابيات”
ولا يزال الاعتقال التعسفي في سوريا يجري ضمن سياسة مركزية من قبل النظام السوري، الذي يقوم بإخفاء الغالبية العظمى منهم بشكل منهجي ومدروس.
ويشكل الاختفاء القسري الممارس من قبل النظام جريمة ضد الإنسانية ما زالت تُمارس حتى اللحظة، و”يجب على الدول التي قامت بإعادة علاقاتها مع النظام السوري المتورط بإخفاء 96 ألف مواطنٍ سوري مراجعة حساباتها والتبرؤ منه في أسرع وقت ممكن لأنه نظام متعفن غير قابل للإصلاح”، حسب بيان “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
وكانت قصة “المؤسسة المستقلة” قد بدأت منذ أكثر من عامين بطرح أولي بين السوريين نفسهم والمنظمات الحقوقية المعنية بقضيتهم ومجموعة “ميثاق العدالة والحقيقة”.
وحظيت هذه المنظمات بدعم للفكرة من جمعيات ومؤسسات أوروبية، بحسب سرية وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا سيئ السمعة.
ورغم أن الحقوقي السوري لا يعول كثيرا على “المخرجات التي قد يفرضها عمل المؤسسة المستقلة”، إلا أنه يرى الخطوة تصب في صالح إبقاء “قضية المفقودين في سوريا حاضرة. بمعنى تدويلها”.
ويقول: “هي سابقة تاريخية بالفعل ولأول مرة تقول الجمعية العامة يجب أن يكون هناك هيئة للمفقودين. هذا الأمر بمثابة اعتراف سياسي عن وجود أزمة مفقودين في سوريا وتتطلب الحل”.
“عندما تتبنى قضية المفقودين هيئة أممية يعني وجود تدويل لهذا الأمر وهي نقطة إيجابية”.
ويتابع سرية: “الموضوع بالأساس سياسي وأزمة المفقودين والمختفين قسرا هي أزمة سياسية بحتة صرفة، والجميع في سوريا استغلها من جنيف إلى الدستورية وأستانة”.
وقد يسحب إنشاء “المؤسسة المستقلة” استغلال الأطراف لملف المفقودين والمختفين قسرا من المنصات والمسارات السياسية التي لم تقدم أي شيء يذكر، منذ سنوات، وفق ذات المتحدث.
ويشير إلى ما سبق الحقوقي عبد الغني بقوله إنه “من المتوقع أن تناصر الآلية الجديد ملف المفقودين والمختفين قسريا وتضعه على طاولة الحل السياسي”.
ومن المتوقع أيضا أن تتمكن الآلية من “جمع البيانات عن المختفين، والتواصل مع عائلاتهم وإبلاغهم، وأن تلعب دورا تنسيقا مع المؤسسات الحقوقية الدولية والسورية”.
بدوره يشير الزميل الحالي عن سوريا في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، قتيبة إدلبي إلى أن “العمل على القرار تبنته الحكومة الأميركية قبل سنوات، نتيجة جهود المناصرة الطويلة والحثيثة من مجموعات العائلات والضحايا”.
وقادت الحكومة الأميركية عملية كتابة مسودة القرار، وحشد الأصوات وضمان تمويل ميزانية الآلية، دون أن تعلن عن ذلك كي تضمن أكبر مساحة تأييد للمشروع ضمن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويضيف إدلبي أن “مساحات العمل ما زالت موجودة لمن يبحث عنها ولا تغلق أبدا، وأننا في ميزان القوة السياسية كسوريين هزمنا هذا النظام عشرات المرات، وأن معركتنا الرابحة هذه مستمرة طالما نضخ فيها جهودنا وإخلاصنا”، حسب تعبيره.