لم تكن أغنية هدى (شقيقة فيروز) في ختام مسرحية «صيف 840»… «وحياة اللي راحوا وللي صاروا الحنين» لتتخذ هذا البُعد الإنساني عن «الشهداء»، لو لم يكن لبنان يعيش منذ أعوام طويلة على إيقاع موت أبنائه في حروب داخلية وخارجية.
البلد الذي وُلد على أنه الملجأ للمضطهَدين وعَرف احتلالاتٍ عسكريةً وعمليات اضطهاد متتالية، تَعايش مع فكرة الموت ولا سيما في تاريخه الحديث منذ عام 1975. هو الوطن الذي انطبع بالأغنيات الوطنية وأهازيج تشييع الشهداء والضحايا، جنوداً في الجيش اللبناني أو مقاتلي أحزاب على مرّ جولات الاقتتال العسكرية خلال الحرب أو بعد انتهائها وتحديداً منذ عام 2005 بعدما تتالت الاغتيالاتُ التي طاولت خيرةَ قيادييه، وصولاً إلى حروب الجنوب والاعتداءات الإسرائيلية وآخِرُها حرب يوليو 2006، وحرب مخيم نهر البارد (صيف 2007).
ولكن الفواجعَ، ولو «على دفعات»، التي بدت مُلازِمةً لواقع «بلاد الأرز» وغالباً ما كانت «تخرقها» استراحاتٌ من سلْم وازدهارٍ وكأنها «هدوء ما بين العواصف»، كان ينقصها انفجارُ مرفأ بيروت لتكتمل التراجيديا اللبنانية في أقْسى مظاهرها وأكثرها إيلاماً.
في الذكرى الثالثة لانفجار الرابع من اغسطس 2020، بدا اللبنانيون وكأنهم تأقلموا مع أكبر فاجعة إنسانية طالت العاصمة وقتلتْ ما لا يقلّ عن 235 شخصاً وأصابت الآلاف وشرّدت العائلات وهدّمت مئات البيوت والمحال والشركات.
بعد ثلاثة أعوام على «بيروتشيما» الذي أدْمى اللبنانيين ووحّدهم لأيام حين تَضَافرتْ جهودهم لمساعدة الجرحى وتشييع الشهداء في مآتم شعبية ولنفض غبار الدمار عن العاصمة ومساعدة المشرّدين، ماذا بقي من تلك المصيبة ومن ذاك التضامن الإنساني الذي لم يشهد له لبنان مثيلاً؟
لم تَعُدْ اللافتات التي رُفعت عند مرفأ بيروت تثير الاهتمام الذي رافَقَ الأشهر الأولى للفاجعة، ولا تدعو اللبنانيين إلى التأمل في اهراءات المرفأ التي تهدمت ومن ثم تداعت أقسام منها. فقد تَعَوَّدَ اللبنانيون مشهد الأجزاء المهدَّمة وأطنان الحديد الذي نتج عن الخراب الهائل. ورُممت المناطق والمنازل المدمّرة، وعادت الحياة تدبّ في شوارع السهر المحيطة بمنطقة الانفجار، وصارت أخبار المرفأ تتمحور حول توسعته وتلزيمه لشركة فرنسية.
لم تعد دماء الشهداء الذين سقطوا في المرفأ ولا في أحياء بيروت، تنادي بالثأر من الذين كانوا مشاركين عمداً أو سهواً في تخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ على مدى أكثر من 7 أعوام، أو بالأصحّ ظهر وكأن اللبنانيين لم يعودوا يسمعون هذه النداءات، لمحاكمة المجرمين، بدل بقاء المتورّطين منهم خارج السجن، ولاستنئاف التحقيق المتوقّف تحت وطأة النكايات السياسية.
من الصعب أن يقال إن اللبنانيين نسوا ما حلّ. فصور الضحايا وآلام العائلات ظلت تعيش معهم لأشهر طويلة. صار المتحدّثون باسم العائلات الثكلى أفراداً من كل بيت لبناني، يتابعون أخبارهم عبر الشاشات، أفراحهم وأتراحهم، بعدما تَشاركوا معهم تظاهرات المطالبة بالحقيقة.
لم تحصد فاجعةٌ، ولبنان عرف شتى أنواعها، تضامناً كما حصل في جريمة المرفأ. وقد يكون الموت الذي حَصد من كل الطوائف والمذاهب والاتجاهات السياسية ساهَمَ في جمْع اللبنانيين تحت سقف وَجَعٍ واحد. ومنذ الكارثة لم يكن ضحايا المرفأ مجرّد صور على جدران، بل صاروا أسماء من لحم ودم، ضحكاتهم وأخبارهم ولحظاتهم الأخيرة وعمليات البحث عنهم على كل شفة ولسان. رُفعت الصلوات المسيحية والإسلامية عن أرواحهم فوحّدوا بموتهم الآلاف من الذين تَضامنوا مع عائلاتهم.
لكن السياسة عادتْ لتضع إصبعها في الجرح اللبناني وتعبث فيه. فصارت قضية المرفأ سياسيةً، بين رافضٍ لتنفيذ العدالة وبين مُطالِب بها. ومع ذلك تحلّ الذكرى الثالثة، وكأن ثمة نية مبيّتة لـ «دفْن» الحقيقة فيما اللبنانيون يُحْيون الذكرى المُرة مثقَلين بواقعٍ مأسوي يزيد من آلامهم اليومية.
على مدى أعوام ما بعد الـ 2005، تَعَوَّدَ لبنان سقوط أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا ضحية صراعات سياسية. ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (14 فبراير 2005) وما تلاه من جرائم استهدفت شخصيات سياسية من قوى «14 مارس»، طالت لائحة الضحايا الأبرياء. رُفعت النعوش على الأكف والراحات، صدحت الأغنيات الوطنية، وثمة مَن تلا قَسَمَ اليمين للبقاء على الوعد.
وفيما كانت الآلام والعبثية السياسية تطوي صفحة تلو أخرى، صار الموت جزءاً من الحياة اليومية للبنانيين، كما التظاهرات التي تطالب بالحقيقة والكشف عمّن قتل واغتال ودمّر ووَضَعَ سيارات مفخَّخة، كما عن المسؤول عن تفجير المرفأ. لكن الذاكرة اللبنانية المثخنة بالجِراح لم تعد تستوعب آلاف الضحايا والمصابين، فصار النسيان أو التأقلم مع الواقع طريقاً للهروب إلى الأمام يلجأ إليه اللبنانيون بوعيهم أو «لا وعيهم» تحت وطأة آلة القتل التي رزحوا تحتها على مدى ما يقارب نصف القرن.
ورغم كل تاريخ القتل والتدمير والتهجير، يبقى لانفجار المرفأ حصةً كبرى من الدموع والخوف والحزن… شباباً وصبايا، أطفالاً ومراهقين، رجالاً ونساء، شهداء الدفاع المدني وفوج الإطفاء، حكاياهم صارت على لسان كل الذين شهدوا بأم العين على مذبحة بشرية تُنقل مباشرةً على الهواء.
فاجعةٌ تركتْ بضخامتها أَثَرها على جيل شاب وكأنه رأى ما كان يقرأه أو يسمعه عن الحرب وويلاتها يخرج «حياً» من تحت أنقاض ثالث أقوى انفجار غير نووي عرفه العالم، وشهد وهو ينظّف الزجاج الذي غطى الطرق ويساعد في لملمة أشلاء العاصمة، كيف يمكن للحظة إجرامٍ أن تدمّر نصف بيروت وتشلع العائلات وتزهق أرواحاً بريئة. هي تكرار لقصة الحرب الطويلة، والسيارات المفخّخة، والقصف الذي حصد أبرياء. انفجار المرفأ هو كل ذلك ومعه ذاكرة اللبنانيين التي ما أن تحاول أن تنسى وتنزع عنها غبار الحرب والألم والموت، حتى تحل عليها مصيبة أخرى أكثر ألماً.
تختم هدى أغنيتها بأن تقسم «وحياتك يا أرضي ويا بيتي الحزين، يا رفيقي اللي استشهد يا شعبي اللي تشرّد، رح نرجع نتلاقى رح نرجع نتوحد. وعد عليّ يا شعبي السجين». هكذا تقول الأغنية. واللبنانيون كل سنة يَعِدون بالحفاظ على دماء الشهداء وتحقيق الوحدة، لكن التجربة علّمتهم بعد أعوام مريرة من الحروب والاغتيالات والتفجيرات أن درب الموت مصرّ على أن يمر في أرضهم مرة تلو أخرى، مهما حاولوا أن ينسوا أو يتناسوا.
وغداً يحيي لبنان وأهالي الضحايا بالأسْود ذكرى 4 أغسطس في مسيرة ستنطلق من أمام فوج الإطفاء الى تمثال المغترب قبالة الاهراءات تحت شعار: «من أجل العدالة والمحاسبة… مستمرون»، فيما شهد وسط بيروت عشية الذكرى قيام ناشطين برصْف طريق مجلس النواب بصور المسؤولين السياسيّين والأمنيّين المدّعى عليهم والفارّين من وجه العدالة، وأغرقوها بالطلاء الأحمر.
وقف النار في «عين الحلوة»… قيد الاختبار
| بيروت – «الراي» |
… «هدوء ما بعد العاصفة».
هكذا بدا المشهد أمس في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا، الذي وُضع على سكةِ إخماد المواجهات الأخطر التي شهدها منذ أعوام واندلعت على مدى 4 أيام بين حركة «فتح» وإسلاميين وبدت محمَّلة بأبعاد ما فوق عادية تتّصل بالامتداداتِ الإقليمية لفصائل ومجموعاتٍ وبالصراعات الفلسطينية المُزْمنة.
وتشكل الساعات المقبلة اختباراً حاسماً سيتبيّن معه الخيط الأبيض من الأسود في خفايا اندفاعة النار التي أسفرت عن مقتل ما لا يقلّ عن 11 شخصاً وأكثر من 80 جريحاً، والتي لم تُحْدِث أي تغييرات في خريطة النفوذ داخل أكبر مخيمات لبنان، ما خلا شطْب رأس الهرم الأمني في عين الحلوة القائد الفتحاوي أبوأشرف العرموشي، فإما يصمد وقف النار وتسلك خريطة الطريق التي رُسمت لتطبيع الوضع، وإما يعود الفتيل للاشتعال مع ما سيعنيه ذلك من تعزيز الاقتناع بأن هذا «الحريق» كان… بفعل فاعل.
وساد أمس الهدوءُ الحذِر على محاور عين الحلوة، وسط تسجيل أول خرق لوقف إطلاق النار بعيد الظهر تخلله إطلاق رشقات نارية متقطعة مترافقة مع قذائف صاروخية في عدد من أحيائه، فيما سمعت أصوات سيارات الإسعاف داخل المخيم.
وتزامناً، شوهدت عائلات نزحت من المخيم تَعبر من المداخل التي فتحها الجيش اللبناني أمامهم لتفقُّد مساكنهم وممتلكاتهم جراء الدمار الهائل الذي لحق بعدد من الأبنية والمحال واحتراق عدد كبير من السيارات.
في موازاة ذلك، انصبّ مسار معالجة الخروق وتطويقها، على تحصين وقف النار وسحْب المسلحين، وتشكيل لجنة التحقيق.
وبوشرت الاتصالات مع «فتح» وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتحالف القوى الفلسطينية بما فيها «حماس»، والقوى الإسلامية (عصبة الأنصار والحركة المجاهدة) لتسمية مندوب لكل منها كي تباشر عملها.