بعد أيام قليلة من إخفاق بعثة روسية مماثلة “لونا 25” دخلت الهند التاريخ من بوابة القمر، إذ حققت المركبة الفضائية “تشانداريان 3” هبوطاً آمناً على قطبه الجنوبي في مهمة كانت تعد مستحيلة حتى الآن، وفي خطوة رائدة غير مسبوقة من أية جهة أخرى، وسجلت لحظة فارقة من الفخر والسعادة غمرت البلاد، بل قفزة عملاقة للبشرية عموماً. إننا، لا ريب، إزاء إنجاز استثنائي قائم في حد ذاته، غير أنه على ما يبدو كان مجرد بداية لمهام عدة حملها معه هذا الإنجاز وألقاها على كاهل هذه المهمة الدولة الفقيرة القابعة في العالم الثالث التي صارت الآن تحتل المرتبة الرابعة بين الدول التي وطأت سطح الكوكب الوحيد الذي يدور في فلك الأرض، والأولى التي تستكشف المنطقة المستهدفة، بل الأولى التي حققت هدفها متوسلة موازنة متواضعة جداً قياساً إلى حجم المهمة، ضاربة عرض الحائط كل المبالغ الطائلة التي تنفقها الولايات المتحدة مثلاً على أية بعثة فضائية، بل على فيلم هوليوودي خيالي حول الفضاء من قبيل “إنترستيلر” Interstellar (بين النجوم).
ويبدو أن مركبة الهبوط “فيكرام” Vikram، والمركبة الجوالة الآلية “براغيان” Pragyan اللتين تتكون منهما البعثة “تشانداريان 3″ والتابعتين لـ”منظمة أبحاث الفضاء الهندية” (“إيسرو” ISRO) تبليان بلاءً حسناً هناك في الفضاء القمري، إذ توصلتا في غضون أسبوعين فقط إلى معلومات مهمة لفتت علماء الكواكب، وقد تناولت مجلة “نيتشر” العلمية هذه الإنجازات وسلطت عليها الضوء في مقال نشرته أخيراً.
خليط رقيق من الأيونات والإلكترونات يدور قرب القطب القمري
معلوم أن كثافة الغلاف الأيوني القمري ستطرح تأثيراتها على أنظمة الاتصالات والملاحة القمرية في حال استوطن البشر القمر، إذ كلما ازدادت كثافة الإلكترونات، استغرقت الإشارات الراديوية وقتاً أطول للسفر عبر الغلاف الأيوني. في هذا الإطار، توصل مسبار على متن “فيكرام” إلى تحديد القياسات الأولى لكثافة الغلاف الأيوني للقمر ودرجة حرارته. وتشير “منظمة أبحاث الفضاء الهندية” إلى وجود مزيج “متناثر نسبياً” من الأيونات والإلكترونات في طبقة تبلغ سماكتها 100 كيلومتر من مادة في حالة البلازما، أو “الهيولى” (غاز أيوني)، المشحونة كهربائياً والمحيطة بسطح القمر على مقربة من القطب الجنوبي القمري.
وتشير القياسات الأولى للبلازما إلى كثافة تبلغ نحو خمسة ملايين إلى 30 مليون إلكترون لكل متر مكعب. كذلك يبدو أن الكثافة تختلف مع تقدم اليوم القمري، بحسب ما نقلت مجلة “نيتشر” Nature عن أحد علماء “منظمة أبحاث الفضاء الهندية” الذي يعكف على تحليل بيانات بعثة “تشاندرايان 3”. على سبيل المقارنة، تبلغ الكثافة القصوى لطبقة مماثلة في الغلاف الجوي العلوي للأرض مليون إلكترون في السنتيمتر المكعب. ووفق العالم، تؤشر البلازما المتناثرة إلى أن التأخير المحتمل لسفر الإشارات الراديوية عبر الغلاف الأيوني سيكون “في حده الأدنى”، ولن يشكل مشكلة في الإرسال.
درجات الحرارة تختلف باختلاف العمق
بطبيعة الحال، يكتسب فهم التربة القمرية، بما في ذلك درجة حرارتها وخاصية التوصيل، أهمية بالغة عند التفكير في استيطان القمر. تنقل “نيتشر” عن أنيل بهاردواج، مدير “مختبر البحوث الفيزيائية” التابع لـ”منظمة أبحاث الفضاء الهندية” في مدينة أحمد آباد، قوله إن التربة “تعد مورداً مهماً في الموقع للبناء”.
وفق المجلة، مركبة الهبوط مجهزة بمسبار درجة الحرارة الذي يحتوي على 10 أجهزة استشعار وفي مقدوره الوصول إلى عمق 10 سنتيمترات تحت سطح القمر. وتشير بياناته الأولى إلى أن درجة الحرارة على عمق ثمانية سنتيمترات خلال النهار أدنى بنحو 60 درجة مئوية من درجة الحرارة على السطح.
ومن المتوقع، وفق عالم الكواكب بول هاين من “جامعة كولورادو بولدر”، حدوث انخفاض حاد في درجة الحرارة خلال النهار القمري، لأن الحرارة لا تتجه نحو الأسفل من السطح الدافئ المضاء بنور الشمس. إنه تأثير “مشابه للتأثير الذي يشعر به المرء عند زيارة الشاطئ في يوم حار، فإذا حفر بضعة سنتيمترات فقط وجد أن الرمال أكثر برودة بأشواط من السطح”، تابع هاين.
ويضيف أن القياسات المنجزة حتى الآن وجدت أن درجة الحرارة على السطح أكثر حرارة بأشواط مقارنة مع ما سجلته مركبة الاستطلاع القمرية المدارية التابعة لـ”ناسا” عام 2009.
كذلك يوضح هاين، على ما نقلت “نيتشر”، أن دفء درجات الحرارة “يحول دون أن يكون الجليد المائي مستقراً”، موضحاً أن الماء يتحول من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية عند درجة حرارة منخفضة جداً في الفضاء الفارغ، تحديداً عند 160 درجة مئوية تحت الصفر تقريباً. وتشير بيانات “تشاندرايان 3” إلى درجات حرارة أكثر دفئاً من 10 درجات مئوية تحت الصفر في مختلف الأعماق التي أخذت عينات منها، لذا يتوقع هاين وزملاؤه “أن تنخفض درجات الحرارة إلى نحو متوسط درجة حرارة السطح البالغة نحو درجة مئوية تحت الصفر”.
الاشتباه في زلزال قمري
سجل جهاز قياس الزلازل الخاص بمركبة الهبوط اهتزازات عدة في المنطقة قيد الدراسة، ولكن اهتزازاً واحداً على وجه الخصوص لفت انتباه العلماء. ومن بين هؤلاء عالم كيمياء الكواكب مارك نورمان من “الجامعة الوطنية الأسترالية” في مدينة كانبيرا، إذ يوضح أن الأداة “سجلت على ما يبدو حدثاً زلزالياً صغيراً جداً، اضمحل في خلال أربع ثوانٍ تقريباً”. ويظن علماء “منظمة أبحاث الفضاء الهندية” أنه كان زلزالاً صغيراً أو اصطدام نيزك صغير.
عموماً، يبقى نشوب مثل هذه الاضطرابات على القمر محتملة، وفق نورمان، “التأثيرات الصغيرة والتعديلات التكتونية المحلية المتعلقة بقوى المد والجزر شائعة على القمر، لكننا نحتاج حقاً إلى شبكة رصد زلزال عالمية على القمر وعمليات رصد طويلة المدى كي نتوصل إلى فهم الأهمية التي يكتسبها أي حدث معين”.
تأكيد وجود الكبريت
أكدت تحليلات نهض بها الروبوت المتنقل وجود الكبريت على مقربة من القطب الجنوبي للقمر، وفق تقارير أصدرتها “منظمة أبحاث الفضاء الهندية”. كذلك عثر على الألومنيوم والسيليكون والكالسيوم والحديد، من بين عناصر أخرى.
ولما كان من “غير المتوقع عموماً وجود الكبريت هناك، كونه مادة متطايرة”، على ما يوضح بهاردواج فإن تأكيد وجوده ينطوي على أهمية كبيرة حقاً. ويعد الكبريت عنصراً أساسياً في الصخور المنصهرة، ويعتقد الباحثون أن القمر البدائي كان مغطى بطبقة سميكة من الصخور المنصهرة الساخنة، والتي تبلورت لتشكل سطح القمر، لذا فإن القياسات الخاصة بتركيزات الكبريت توفر نظرة ثاقبة إلى هذه العملية، ولكن مع ذلك، ليس مستبعداً أيضاً أن يكون الكبريت قد جاء من الكويكبات التي تقصف سطح القمر. ويأمل العالم لدى “منظمة أبحاث الفضاء الهندية” في أن تشكل النتائج التي توصلوا إليها إضافة إلى نتائج بعثات “أبولو” الأميركية بغية فهم الكيمياء الجيولوجية للقمر بشكل أفضل.
الآن، خلدت مركبة الهبوط “فيكرام” Vikram، والمركبة الجوالة الآلية “براغيان” إلى استراحة قصيرة، على أن تستأنفا في 22 سبتمبر (أيلول) الجاري عمليات البحث مجدداً. وفي انتظار استكشافات جديدة تقدمانها للبشرية، يسعنا أن نجزم بأن الهند قد أكدت مكانتها كلاعب رئيس في أي تطور يحمله المستقبل في شأن الطموحات القمرية، سواء السياحة البشرية على سطحه، أو التنقيب عن المعادن، أو حتى استيطانه.