قبل انتهاء لقائه مع أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال أشيل سيلفستريني تطرّق صفير إلى قضيته الشخصية العالقة مع المدبّر الرسولي ابراهيم الحلو. قال للكاردينال: «لقد طلب إليّ وإلى زميلي المطران (رولان) أبو جودة أن نختار بين البقاء في بكركي أو الذهاب إلى مناطق الأبرشية، فكيف يمكننا أن نختار قبل أن يكون هناك بطريرك؟ لعلّ هذا البطريرك لا يريد أن نعاونه». فأجاب: «هذا أمر يتعلّق بالمجمع الشرقي، يمكنك أن تراجعه وأن تراجع بالأخصّ المونسنيور (ماريو) ريتزي». ثم شدّد سيلفستريني «على وجوب التعاون مع المدبّر». أجابه صفير: «إنّنا نتعاون، والمطارنة يجتمعون حوله في بكركي ويصدرون البيانات معاً. وقبل أن آتي إلى روما وضعت رسالة الصوم العادية ولا نتلكأ عن القيام بكل عمل يطلبه». فأبدى سيلفستريني سروره لهذا الكلام وشكر صفير عليه، وعاد إلى الحديث عن قضية لبنان مبدياً «تخوّفه من إسقاط رئيس الجمهورية وإحداث فراغ دستوري، ولا سيّما أنّ هناك مسيحيين يطالبون بذلك».
دامت المقابلة «الحامية» نحو عشرين دقيقة، وقف بعدها صفير مستأذناً بالانصراف. فنهض سيلفستريني وودّعه على الباب بعد أن سأله عن موعد عودته إلى لبنان، أجابه صفير: «الأسبوع القادم»، وخرج. أراد صفير من خلال لقاءاته أن يرسم خارطة طريق لانتخاب بطريرك جديد، وكان يحمل إلى روما اقتراحات تجعل هذا الانتخاب غير مشكوك فيه ويتمتع بـ»الديمقراطية» الكنسية، ويظهر ذلك من خلال توضيحه كما كتب «أهمية أن يتمّ انتخاب البطريرك قبل انتخاب المطارنة حتى لا يُقال إن روما فرضت هذا البطريرك، خصوصاً إذا كان المدبِّر ابراهيم الحلو سيكون هذا البطريرك». وقد خرج بعد سلسلة لقاءاته باستنتاجات حول موقف سيلفستريني والدوائر الفاتيكانية لخّصها ودوّنها على النحو التالي:
1 – يجب انتخاب مطارنة قبل انتخاب البطريرك لتوسيع مجمع المطارنة ليأتي انتخاب البطريرك بطريقة سليمة.
2 – عُيِّن المدبِّر ليُعدَّ لانتخاب بطريرك ولم يسعَ هو لنفسه.
3 – الحالة الحاضرة لا تسمح بانتخاب بطريرك.
4 – يجب انتخاب مطارنة بدلاً من المستقيلين.
5 – يجب معاونة المدبِّر لتوحيد كلمة المسيحيين.
6 – البطريرك (خريش) أبدى كثيراً من التردّد في الاستقالة، ولم يواجه الأحداث بالعمل المطلوب.
7 – أصلب المواقف هو موقف سيلفستريني ثم (المونسنيور ماركو) بروجي. أما (المونسنيور ماريو) ريتزي فقد أراد أن يتفهَّم الوضع، وكذلك قداسة البابا أبدى تفهّماً كبيراً.
في خلاصة استنتاجات صفير يبدو أنّ تفهّم البابا للمسألة هو الذي انتصر آخذاً في النتيجة بشروحات المطران صفير لوضعها موضع التنفيذ على قاعدة انتخاب البطريرك قبل انتخاب المطارنة، وأن الحالة لا تسمح بأن يطول هذا الوضع. لذلك كان لا بدّ من قرارات سريعة.
في أول شباط انتهت جلسات لجنة الحقّ القانوني التي دامت أسبوعين. عند الساعة الثانية عشرة اتصل صفير بالمونسنيور جوزف خوري في المجمع الشرقي وسأله إذا كان من الممكن أن يستقبله المونسنيور ريتزي ليودِّعه. غاب خوري قليلاً ثم قال له: «بعد عشر دقائق».
دخل صفير على المونسنيور ريتزي في مكتبه وعاد إلى الحديث عن لبنان وعن الأحوال السيئة فيه و»عن استقالة البطريرك خريش التي لم يقدّمها خطياً بل شفوياً، على ما يبدو». فقال له صفير: «فهمت المرة الماضية وغبطته قال أيضاً إنه قدم استقالة خطية». وأضاف: «كل ما هو مطلوب أن نتحاشى امتحان قوّة بين روما والأساقفة. فإذا دعا المدبِّر إلى انتخاب مطارنة ورفض الأساقفة، فماذا يكون الموقف؟». قال ريتزي: «إننا نتّكل عليك لتكون عنصر تهدئة. ونأمل ألّا تصل الأمور إلى هذا الحدّ». وتابع: «أقول لك وحدك ـ وهذا سرّ حبري ـ إنّ استقالة المطرانين (اغناطيوس) زيادة (أبرشية بيروت) و(الياس) فرح (أبرشية أنطلياس وقبرص قبل فصلهما) قُبِلتا وعيَّنا لكلّ منهما مدبّراً رسولياً لأبرشيته ريثما يتمّ انتخاب خلف فتسقط سلطة المدبّر. مسألة زيادة أبسط لأن الكرسي الرسولي عيّنه وهو يقبل استقالته. أما مسألة فرح فهي معقّدة لأنّه قدّم استقالته للمجمع ولكنّ البابا قبلها على الرغم من كل شيء. ويبقى للمجمع أن يحدِّد مكان إقامة المطرانين مع ما يجب لكل منهما من معاش لائق».
بعدما ودّعه في مكتبه رافقه ريتزي إلى الباب الخارجي مبدياً إعجابه برباطة الجأش التي أبداها على الرغم من كل ما يدور في لبنان من معارك قائلًا: «أنا لا أستطيع أن أبدي ذلك لأنني قلق جداً». بعد ذلك تمنّى للمطران صفير سفراً موفقاً إلى لبنان. لكنّ صفير الذي دوَّن هذه الملاحظات، لم يغادر فوراً إلى لبنان.
تزامن وجوده هناك مع وجود المطران يوسف الخوري الذي كان معلِناً طموحه بأن يكون بطريركاً. اللقاء الأول بينهما حصل الى مائدة الغداء بضيافة المطران إدمون فرحات بحضور المطران إميل عيد والسفير غازي الشدياق والمونسنيور يوسف حتي. بعد الغداء طلب الخوري لقاءه في النزل الروماني حيث يقيم، وقد جاء للإشتراك في أعمال اللجنة المسكونية.
الساعة السادسة والنصف، إستقلّ صفير سيارة تاكسي واتجه صوب النزل الذي يتسع لنحو 500 شخص وغرفة مجهزة بكل أسباب الراحة. سأل عن المطران الخوري فلم يكن قد عاد بعد. ما هي إلا دقائق حتى وصل، فجلسا في قاعة الاستقبال التي كان ينتظر فيها صفير. نقل إليه صفير أجواء لقاءاته، بينما أخبره الخوري ما دار بينه وبين المونسنيور ريتزي.
عاد صفير وأتى سيلفستريني
في 6 شباط 1986 سلك المطران صفير طريق العودة إلى لبنان. إنتقل من مطار روما إلى مطار أثينا حيث خضع لترتيبات التفتيش العادية ثم انتقل من أثينا إلى قبرص، وهناك توجه إلى المرفأ للانتقال بحراً إلى جونية على متن الباخرة وقد نقل معاناة اللبنانيين، وفي قرارة نفسه كان يعود بانطباع أن أزمة بكركي ستطول. ولكن انطباعاته لم تكن صحيحة.
في 9 آذار 1986، الساعة العاشرة إلا ربعاً، حطّت طوافة عسكرية في بكركي نزل منها المطران أشيل سيلفستريني أمين سر مجلس الشؤون السياسية في الفاتيكان يرافقه المونسنيور جان لوي توران الفرنسي الأصل، والذي كان أمين سر السفارة البابوية في لبنان. وكان السفير البابوي لوتشيانو أنجيلوني والمونسنيور غاتي قد ذهبا برفقة المونسنيور اغناطيوس مارون إلى لارنكا حيث قضوا ليلتهم هناك واصطحبوا في اليوم التالي سيلفستريني.
كان السفير البابوي والمونسنيور غاتي قد أجريا عدة اتصالات مع مراجع وشخصيات مسيحية وجمعا معلومات عن الحالة في لبنان وعمّا يريده المسيحيون وعن تصوّرهم للبنان الغد ليقدّماها إليه. وقد سبق لهما أن التقيا لهذه الغاية مع المطارنة الموارنة في الخامس من آذار.
طوال فترة وجوده في لبنان، أقام سيلفستريني في بكركي وشملت لقاءاته المسؤولين اللبنانيين الرسميين ورؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، وذهب بالطوافة إلى دمشق حيث التقى الرئيس السوري حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام في 12 آذار، وعاد بالطوافة في اليوم التالي إلى بكركي. وفي 14 آذار سافر بها إلى قبرص تاركاً للمونسنيور غاتي متابعة المهمة التي جاء من أجلها.
في ظاهر الأمور بدا كأن جولة سيلفستريني سياسية شاملة. ولكن في الواقع كانت مسألة انتخاب بطريرك جديد هي البند الرئيسي فيها، وكأنّه جاء من أجل ذلك، في تعديل واضح للمواقف التي أبداها في روما للمطران نصرالله صفير، حيث ظهر بوضوح أن الحالة الخطيرة التي يمرّ بها لبنان لا تحتمل التأخير. ولذلك بدا كأن الفاتيكان قد أخذ بتوضيحات صفير التي فعلت فعلها.