كانت لدى المطران نصرالله صفير نظرة ثاقبة حول أخطار «الاتفاق الثلاثي»، وقد اكتفى بتدوين خبر التوقيع عليه في 28 كانون الأول 1985 من دون تعليق: «وُقِّع الاتفاق الثلاثي في دمشق بحضور عدد من رجال السياسة اللبنانيين الذين دُعوا إلى حفل التوقيع. الموقّعون: إيلي حبيقة ونبيه بري ووليد جنبلاط وعبد الحليم خدام بصفة شاهد».
يوم الأربعاء في 15 كانون الثاني 1986، تمّ إسقاط «الاتفاق الثلاثي». «منذ الخامسة صباحاً بدأ تبادل إطلاق الرصاص بين قوات إيلي حبيقة وقوات سمير جعجع في المناطق الشرقية، وكانت الطلقات من جميع الأسلحة تسمع بوضوح في بكركي، وتبيّن أنّ هناك محاولة لاحتلال ثكنات الأول من قبل قوات الثاني، وشوهدت أعمدة الدخان في منطقة أدونيس ونهر الكلب والأشرفية وما سواها». هكذا وصف المطران صفير الوضع وكان دائماً من موقعه في بكركي قادراً على رصد الأحداث ومتابعتها واستطلاع الآتي من الأيام والتطورات. وهو على أي حال لم يقبل قرار نقله من بكركي. بدل أن ينكفئ بادر إلى الهجوم.
في الباخرة إلى قبرص
من مرفأ جونية وبواسطة باخرة رُكاب بدأ المطران نصرالله صفير طريق الذهاب إلى الفاتيكان في رحلة تخلّلتها محطات في ثلاثة مطارات: لارنكا وأثينا وروما، حيث التقى لبنانيين باحثين عن ملجأ. كان صفير متسلحاً بإجماع المطارنة الموارنة في لبنان على المطالبة بانتخاب بطريرك جديد معبّرين عن اعتراضهم على قرار تعيين المطران الحلو مدبّراً رسولياً، وهو الوحيد الذي لم يوقِّع على الكتاب وحاول أن يبعد المطرانين صفير ورولان أبو جودة عن بكركي. في الفاتيكان كانت للمطران صفير سلسلة لقاءات قبل أن يتوّج زيارته بلقاء هام مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. هناك في هذه اللقاءات اتضحت له الصورة الكاملة تقريباً حول الظروف التي استدعت اتخاذ قرار تعيين المدبّر الرسولي والطريقة التي تصرف بها البطريرك خريش الذي لم يعلن صراحة استقالته ولا طلب البابا منه ذلك مباشرة، وكان تعيين المدبّر الرسولي هو المخرج لهذه الأزمة البطريركية.
معركة بقاء
يروي المطران صفير أسرار لقاءاته في الفاتيكان من تاريخ انتقاله بحراً من جونية حتى ما قبل اللقاء الكبير الأول مع البابا يوحنا بولس الثاني. فماذا حصل خلال هذه الأيام الفاتيكانية للمطران صفير؟
قبل أن يتّخذ المطران صفير قراره في ما إذا كان سيغادر مقره في بكركي كان يدرك أنّه سيخوض معركة البقاء وأنّ مركز القرار القابل للمراجعة لم يكن إلا في الفاتيكان. كان يعرف أن الطريق صعب ولكنه كان متسلحاً بالكتاب الذي أجمع عليه المطارنة الموارنة. ومع ذلك كان يدرك أنّه ليس من السهل خوض هذه المواجهة مع الكرسي الرسولي.
بعد أربعة أيام على إسقاط الاتفاق الثلاثي، كان الهدوء القلق قد عاد إلى المناطق الشرقية بعد فشل محاولات الضغط العسكري على بعض الجبهات في الشمال والمتن الشمالي لمنع سقوط إيلي حبيقة والاتفاق أو لتأمين خروجه من المناطق الشرقية. ذلك اليوم في 19 كانون الثاني 1986، حزم المطران صفير حقائبه متوجهاً إلى روما للمشاركة في أعمال لجان الحق القانوني ولعقد سلسلة لقاءات على هامشها مع المسؤولين في الكرسي الرسولي سعياً إلى عقد اجتماع خاص مع قداسة البابا. وربّما كان هذا هو هدف صفير الأول من هذه الإقامة الطويلة هناك.
رحلة في بحر هائج
عند الساعة التاسعة والنصف من صباح ذلك اليوم، وصل المطران صفير إلى مرفأ جونية قرب القاعدة البحرية. كانت طريق سفره شاقّة منذ البداية في ذلك اليوم العاصف من أيام كانون الثاني. كان البحر هائجاً فلم تستطع السفينة الاقتراب من الشاطئ وكان المسافرون من أبناء المنطقة الشرقية يزدحمون عند ذلك المرفأ الذي كان طريقهم الوحيد من لبنان إلى الخارج بسبب عدم القدرة على السفر من مطار بيروت. لذلك كان يتم نقل المسافرين عبر قارب صغير إلى الباخرة الأكبر التي منعتها الأمواج العالية من الاقتراب من الميناء. هكذا وصف صفير حالة المرفأ، وكغيره من المسافرين ركب القارب الصغير ومرّت في باله على الفور صورة النزوح المسيحي الكبير من السعديات في 19 و20 كانون الثاني 1976 حيث كان أبناء الدامور والجية ينتقلون بالطريقة نفسها إلى شاطئ كسروان وإلى ذلك المرفأ الذي يسافر منه. وتذكر أيضاً كيف أنّه انتقل من بكركي إلى جامعة الكسليك ليتفقّد أوضاعهم.
هؤلاء المهجّرون مع مهجّري الجبل بعد معارك 1983 و1984 كانت لديهم غضبة كبيرة على بكركي وعلى البطريرك خريش، وكانت هذه الغضبة من بين الأسباب التي حملت الكرسي الرسولي على اتخاذ القرار بتعيين مدبّر رسولي مكانه وكفّ يده. كان المطلوب أن يكون هناك بطريرك قوي وصاحب شخصية، هادئ ورصين، يعرف بكركي جيداً ويعرف دورها ليكون على قدر المسؤوليات التي تتطلبها المرحلة.
من القارب انتقل صفير إلى السفينة وتوجه إلى قاعة الاستقبال وصادف وجود عدد من الشخصيات التي يعرفها فتبادل الحديث مع الياس ربابي وجورج أبو عضل «رجل الأعمال المعروف». في منتصف الطريق أصيب المطران صفير بدوار البحر وهو الذي لم يكن معتاداً بعد على السفر في البواخر. استلقى في غرفته وارتفعت حرارته واعتقد لوهلة أنّه سيمرض وأنّه لن يتمكّن من متابعة السفر وقد يعود عبر الباخرة نفسها من قبرص إلى جونية وأنّ مهمته ستفشل. ولكن كلّ ذلك لم يحصل. فقد تحسّنت حالته بعد الوصول إلى قبرص حيث أمضى ليلة هناك، ثم تابع في اليوم التالي سفره. سيارة تاكسي وبوابة مقفلة
كانت محطته الأولى في مطار أثينا في اليونان حيث التقى عدداً من اللبنانيين الهاربين من الحرب أو الباحثين عن عمل في الخارج، أو المتوجهين للدراسة في جامعات أوروبا وأميركا. المشهد في مطار أثينا ردّه إلى مشاهداته المماثلة في مطار لارنكا. وفي مطار روما حيث حطّت الطائرة التي استقلّها لم يكن المشهد مختلفاً. وهذا ما ترك في نفسه حزناً بسبب ما آل إليه وضع مطار بيروت من سوء أحوال. في روما توجّه من المطار إلى المدرسة المارونية بواسطة سيارة تاكسي. عندما وصل وجد باب المدرسة مقفلاً. إنتقل إلى مطعم قريب إسمه «مطعم الفجر» واتصل هاتفياً بالمطران عيد المسؤول عن المدرسة فأرسل من فتح له الباب.
الموعد الأول الذي كان على جدول زيارة المطران صفير كان في المجمع الشرقي. عندما وصل سأل عن المونسنيور راميزي. قالوا له إنّه لا يزال في بولونيا. سأل عن المونسنيور فانتوري المكلّف بمتابعة القضايا المتعلقة بالكنيسة المارونية وكان حاضراً. سلّم عليه وعانقه وانتقلا إلى صالون صغير حيث جلسا وتحدّثا بالإيطالية. كانت أجواء الخلاف داخل مجلس المطارنة ومع المدبّر الرسولي قد سبقته إلى روما. سأله فانتوري عن المدبّر الرسولي وطلب منه إحاطته بإيجابية وتشجيعه ودعمه، خصوصاً أن معلومات وصلت إلى المجمع الشرقي وفيها أن المطارنة لا يعاونونه وأنّه يشعر بعزلة. لم يتردّد صفير في الردّ على هذه المعلومات بنفيها، وبالتأكيد أنّها زعم لا أساس له من الصحة، وأنّ المطارنة يعاونون المدبّر وموقفهم المعترض لا يتعلق بشخصه بل بالطريقة التي تم تعيينه فيها. وأضاف: «إن الحالة تستوجب تعيين بطريرك يتحمّل مسؤولية كاملة في هذه الظروف المأسوية التي يتقرّر فيها مصير المسيحيين في لبنان والشرق ومصير لبنان بالذات».
كان صفير قد ترجم مجموعة رسائل البابا إلى العربية وجمعها في مجلّد واحد وحملها معه إلى الفاتيكان وقدّم نسخة منها إلى فانتوري الذي علّق قائلاً إنّه كان من الأفضل لو نُشرت الترجمة إلى جانب النص اللاتيني ليتسنّى للبابا قراءتها، فردّ صفير أن هذا الأمر غير قابل للتحقيق في الوقت الحاضر. بعد هذا اللقاء عرف صفير ما ينتظره في الفاتيكان. عاد إلى المدرسة المارونية، وفي اللقاء مع المطران عيد أخبره أن المحامي محسن سليم موجود في روما وأنّه تلقى منه اتصالاً هاتفياً قال له فيه إنّ لديه موعداً لمقابلة قداسة البابا وسيتوسّط معه من أجل العمل على إنقاذه وإنقاذ المسيحيين فيه لأنّه يزول من الوجود إذا رحل عنه