“إنه هوس” هكذا يصف صائدو الكنوز تجربتهم بالبحث عن الذهب وقطع أثرية مدفونة في لبنان، إذ يحملهم الشغف والسعي إلى الثراء نحو الأقفار وأعالي الجبال، كما يدفع بعضاً منهم إلى عمق البحار، بالاستناد إلى أخبار من هنا أو هناك عن بقايا شعوب مندثرة أو سفن لم تقو على حملها.
ويزداد نشاط الحفر والبحث كلما شاعت أخبار عن عثور أحدهم على جرار الذهب ذات الوهج والرنين، وهو ما يقود في بعض الأحيان إلى تخريب أماكن مصنفة أثرية في المناطق البعيدة من رقابة وأعين السلطات الرسمية.
رحلة منتصف الليل
تسهم الثقافة الشعبية والشغف بالقصص الأسطورية وهبوط الثروة في دفع الشباب للتفتيش عن “كنز مفقود”.
ما إن يحل الظلام تتجدد “رحلة البحث عن الثروة المفاجئة” يخرج باسم البالغ من العمر 48 سنة مع مجموعته الثلاثية في المناطق العكارية المقفرة (شمال لبنان)، بعيداً من التجمعات السكنية.
يروي باسم أنه في عام 2012 “شهدت حياتي تحولاً كبيراً، عندما جاءني إلى القرية شخصان من تركيا يحملان مخططاً محدداً، وطلبا مني إرشادهما في عملية البحث عن قطع نادرة”.
فتحت تلك الحادثة أعين الشاب على البحث عن مصدر جديد للكسب والربح، وراح يفتش في البراري الشاسعة والجبال، جازماً أن التفتيش ليس دائماً عبثياً، إذ يشهد انتصارات واقعية، تنتهي في بعض الأحيان بالعثور على قطع ثمينة.
تبدأ عملية البحث بالتفتيش على “العلامة” والرسومات والنقوش، كما يلجأ الصائد أحياناً إلى “السيخ النحاس” الذي يكشف عن المعادن والفراغات ومصادر المياه.
يكشف باسم بعض التفاصيل عما يبحثون عنه بالقول، يجب أن يكون النقش على صخر ثابت، وأن يزيد وزنه على الطن ونصف الطن”، كما هناك النقش الحي الذي يتضمن مثلاً شكل ديك أو نسر أو أفعى أو عقرب، على أن يرتفع خمس أمتار وما فوق. فيما يستبشر الباحثون خيراً عندما يعثرون على “النقش الفني”، أي النقش ذات الزخارف السامية، التي تشير إلى غنى صاحبه ومكانته الاجتماعية.
يتابع باسم “ينشط أساتذة التاريخ والعارفين بالحضارات القديمة في مجال البحث، فهم يستفيدون من خبرتهم ومعارفهم، بخاصة أنهم على معرفة بكيفية الدفن والقبور لدى الأقدمين، وماذا يضعون مع موتاهم كما يجيدون قراءة العلامات والنقوش الموجودة على بعض الصخور”.
أماكن يقصدها صائدو الكنوز
تعتبر المناطق المحيطة بالقلاع القديمة أماكن جاذبة لصائدي الكنوز، لأن القدماء لم يضعوا كنوزهم وكامل مدخراتهم داخل أماكن إقامتهم ودورهم، وإنما يدفنوها في أماكن قريبة حتى لا يتعرضوا للنهب في حالات الغزو.
لا تقود النقوش بالضرورة إلى العثور على كنز، إذ مضت أزمنة طويلة منذ انقضاء الحضارات العظيمة واندثارها، كما شهدت المناطق اللبنانية عمليات تنقيب متنوعة. يشير باسم إلى أن الصدفة هي التي تقود إلى الكنز أو القطع النادرة، كاشفاً عن تزايد البحث عن العلامات التي لا روح فيها، التي تعود للحقبة الرومانية، التي تعتبر ذات آثار سطحية لا تتجاوز الثلاثة أمتار.
يضيف أستبعد أن يجدوا كنوزاً بالمعنى المأمول إذ مضى عليها ألف عام وعدد من البحث المتكرر عنها، كما شهدت الحقبة التركية ومن ثم الفرنسية عمليات تفتيش وكشف متعددة.
يقر باسم أنه عثر على قطع نادرة ثلاث مرات خلال الأعوام المنقضية، وتراوحت بين تمثال صغير على شكل دمية وبعض القطع النقدية، مشيراً إلى أن توريد القطع تأثر بالأوضاع الأمنية وتخوف الزبائن الأجانب من القدوم إلى لبنان، وكذلك لجوء بعض العاملين في مجال التراثيات في السوق اللبنانية – السورية إلى التزوير والغش، واكتشافها من التجار الأجانب.
ويلفت إلى تعرض بعض الحفارين إلى الملاحقة القانونية والتوقيف بفعل استخدام آليات كبيرة والنزول إلى مستويات عميقة.
يصف باسم الصائدين بالمهووسين، إذ تستغرق عمليات البحث سنوات طويلة وقد تصل ببعض منهم وتحديداً الفقراء إلى الموت جوعاً، لأنها تستغرق جهدهم ومالهم وحياتهم.
“الرصد” بانتظار الباحثين
يتطرق باسم إلى “الرصد”، وهو أمر متعارف عليه بالأوساط الشعبية، وهي عبارة عن تمائم و”كتابات”، وأنواع من السحر التي تعد من أجل حماية الكنز المدفون، لكي لا يعبث فيه أحد.
يضيف هناك أماكن قاصية مليئة بالجن وتثير الخوف في نفوس الصائدين وتحديداً مقابر اليهود الأوائل، ويشير إلى مواجهة الرصد لبعض الأشخاص، الذين تفاوتت الأضرار التي لحقت بهم، من عدم القدرة على النوم لمدة أيام، أو أن يصبح مشوشاً باستمرار أو يصاب بالخبل، لذلك تنتشر في أوساطهم الإشارة إلى خرائط وخططات بأماكن وجود الكنوز، إذ تتوارثها بعض العائلات من الأب إلى الولد والحفيد، ويأتي بعض هؤلاء من خارج البلاد.
الذهب يذهب العقول
لاكتشاف الكنوز مكانة راسخة في الروايات والمأثور الشعبي، وتروي نجلا، سيدة في عقدها التاسع من العمر، أن عمتها وزوجها اشتريا جنينة رملية في طرابلس لتزرعها وتسكن فيها. وفي يوم من الأيام كانت تجمع الحشيش من أجل إطعام البقرات، وعلقت في المقص جرة، بعد أن سحبتها عثرت في داخلها قطعاً نقدية ذهبية.
وتلفت إلى أن تلك الجرة بدلت حياتها رأس على عقب، وأصبحت ميسورة الحال، وانعكس ذلك على عائلتها بالكامل.
“واهمون” ليس أكثر
خلال الشهر الماضي أوقفت القوى الأمنية اللبنانية مجموعة من العمال الأجانب يحفرون نفقاً داخل منزل في بعلبك، بحثاً عن “الكنز”، وأحالتهم إلى الجهات القضائية المتخصصة لملاحقتهم، يشكل هؤلاء مثالاً لنموذج بدأ ينتشر في لبنان، إذ يزداد الحديث عن عمليات الاستكشاف، علماً بأن هذا الفعل مخالف للقانون.
في السياق تزدهر تجارة التراثيات في لبنان التي تعتبر مقبولة قانوناً، ويتجه بعضهم إلى استيراد قطع أثاث وموبيليا تراثية من الخارج.
يشير محمد شومان، تاجر أنتيكا، إلى أن البحث عن الذهب أمر منتشر، لكنه لا يستند إلى حقيقة واقعية. ويجهد هؤلاء من أجل العثور على قطع نفيسة، ويوضح أنهم يحفرون الأراضي ويفتشون ولكن لا يعثرون على شيء، يخشى أن هؤلاء يعيشون في حال من الوهم، وهم ضحايا زمن فيه كثير من التزوير والتضليل.
من جهة أخرى يتحدث نزيه غية، تاجر مجوهرات، عن تجنب تجار المجوهرات في لبنان شراء ما يدعي بعضهم أنه قطع نادرة أو أثرية، ويشير إلى تعرض بعضهم لخسائر كبيرة بسبب عمليات الغش والخداع وشراء بعض القطع المزورة، إذ تنشط عصابات، وتحاول ترويج أنها تمتلك 100 كيلو من الذهب، وهي مستعدة لبيعها بنصف سعرها من أجل التخلص منها. يقدمون عينة صحيحة وسليمة ليجذب التاجر، ومن ثم محاولة سلبه أو اختطافه من أجل اقتناص المبالغ المالية الكبيرة، محذراً تجار الذهب من التجاوب مع هؤلاء المدعين.
ماذا عن القانون؟
اهتم المشترع اللبناني في حماية الآثار التي تطاولها أعمال التفتيش والتنقيب نظراً إلى احتضانها عدداً كبيراً من الحضارات الغابرة والسعي إلى الحفاظ على الموجودات الموروثة منها، في العصر العثماني صدر قانون الآثار القديمة في فبراير (شباط) 1884، كما صدر نظام التنقيب عن الآثار القديمة وحفظها في أول أبريل (نيسان) 1916، ومن ثم مع الانتداب الفرنسي أصدر المفوض السامي في يونيو (حزيران) 1920 قراراً في شأن التنقيب عن الآثار القديمة، ثم جاء القرار 207/1926 الذي ينظم التعاطي مع الآثار في سوريا ولبنان، ثم القرار 748/ 1927المرتبط بالمتاجرة بالآثار القديمة والقرار 749 المتعلق بتصديرها، إلى أن جاء القرار 166/ 1933 عن المفوض الفرنسي الذي ألغى القرارات السابقة كافة، وتضمن نظاماً موسعاً ومفصلاً للآثار القديمة.
يتضح اعتناء المشرع في لبنان بالآثار القديمة منذ قرابة القرن والنصف قرن، واعتبرت المادة الأولى من القرار 166 الجاري العمل به حتى الآن، أنه “تعتبر آثاراً قديمة جميع الأشياء التي صنعتها يد الإنسان قبل عام 1700 ميلادي، مهما كانت المدنية التي تنتمي إليها هذه المصنوعات. وتعتبر الآثار القديمة من أملاك الدولة العامة.
كما يمنع التشريع في لبنان التنقيب عن الآثار إلا بترخيص يعطى باسم إحدى الهيئات العلمية ولمن تتوافر فيه ضمانات كافية عن خبرته في علم الآثار (المادة 57)، لذلك يتوجب على كل من يكتشف، خارج الحفريات المرخص باجرائها، أثراً عقارياً أو يعثر بالصدفة على أثر منقول أن يبلغ عن ذلك في مهلة 24 ساعة من اكتشافه أو العثور عليه إلى أقرب جهة إدارية، وفي حال لم يقدم بذلك يعاقب بالسجن والغرامة، على أن تشتري الدولة الأثر المنقول ممن وجده صدفة وأبلغ عنه بثلث قيمته، وإلا تتركه له فيصبح ملكه (المادتان 12-13).
أما الآثار المنقولة التي تكتشف أثناء التنقيب المرخص به تعتبر بالأصل ملكاً عاماً للدولة، غير أنه تجري قسمة هذه الآثار مناصفة بين الدولة وبين من قاموا بالحفريات تعويضاً لهم، وفقاً لشروط الترخيص الواردة في صك الامتياز بإجراء الحفريات بحسب المادة 68.