أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا تقريرها للنصف الأول من العام 2023، بشأن حالة حقوق الإنسان في البلاد، مؤكدة أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في سوريا ما زالت متواصلة.
ويغطي تقرير اللجنة الفترة من 1 كانون الثاني وحتى 30 حزيران 2023، وتم إعداده بناء على 447 مقابلة مباشرة، بالإضافة إلى وثائق وتقارير وصور فوتوغرافية ومقاطع فيديو حللتها اللجنة بعد أن جمعتها من مصادر متعددة، وسيتم تقديمه خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان المقررة بين 11 و13 أيلول الجاري، في حين ستعقد اللجنة جلسة حوار تفاعلي بشأن سوريا في 22 أيلول.
وقال التقرير إن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني ما زالت متواصلة في جميع أنحاء سوريا، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، أو الخاضعة لسيطرة المعارضة أو الجهات الفاعلة من دول أخرى، كما استمر الوضع الإنساني والاقتصادي في التدهور، مع وجود أكثر من 15 مليون سوري في حاجة إلى المساعدة الإنسانية.
وأضاف التقرير أنه على الرغم من الدمار الذي سببه زلزال شباط الماضي، استؤنف القتال بين أطراف النزاع بعد فترة هدوء قصيرة، وتسارعت وتيرة التقارب الدبلوماسي بين النظام السوري والمنطقة، وتواصل القمع والابتزاز، الأمر الذي أثر على اللاجئين العائدين إلى ديارهم.
تدفق المساعدات إلى مناطق سيطرة النظام وعدم كفايتها شمالي سوريا
خلال الفترة المشمولة بالتقرير، تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي في سوريا، مع تزايد أعداد السوريين الذين يعولون على المعونة الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، في حين ضاعف زلزال شباط الماضي من مشكلات السكان، الذين يعانون بالفعل من النزاع المستمر منذ أكثر من 10 سنوات.
وفي حين تدفقت المساعدات والمعونات المنقذة للحياة من دول المنطقة إلى مناطق سيطرة النظام السوري، كان تدخل المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، ضعيفاً وغير كافٍ على الإطلاق في أكثر المناطق تضرراً في شمالي سوريا بعد الزلزال.
ومع انتهاء تفويض المساعدات الإنسانية في 10 من تموز الماضي، سمح النظام السوري باستخدام معبر باب الهوى لمدة ستة أشهر لإيصال المساعدات الإنسانية، لكنه وضع شروطاً غير قابلة للتطبيق، وتبدو متناقضة مع القانون الإنساني الدولي المتعلق بالشروط المشروعة لوصول المساعدات الإنسانية.
وقال التقرير إن لجنة التحقيق الدولية المستقلة دعت مراراً إلى ربط مسألة إيصال المساعدات بتقييم إنساني شفاف ومحايد، وعدم تسييس تراخيص وصول المساعدات الإنسانية، وإزالة جميع العقبات التي تعترض إيصال المساعدات، بما في ذلك تلك الناجمة عن التدابير القسرية الانفرادية، حتى وإن كان الأمر غير مقصود.
وشددت اللجنة على أنه بموجب القانون الإنساني الدولي، يجب أن تسمح أطراف النزاع بالمرور السريع والسلس للإغاثة الإنسانية للمدنيين المحتاجين وتيسيرها، ويجب عدم رفض الموافقة على هذه الإغاثة رفضاً تعسفياً، في حين يقع على عاتق النظام السوري والجماعات المسلحة المدعومة من مختلف الدول مسؤولية السماح بوصول المساعدات المحايدة إلى جميع المحتاجين والمتضررين من الزلزال.
وذكر التقرير أن الاختلافات السياسية أو الأيديولوجية ليست أسباباً وجيهة لعدم الموافقة على تقديم المساعدات الإنسانية المحايدة للمحتاجين، شريطة تقديمها دون أي تمييز سلبي.
وتثير حالات التأخير والعقبات البيروقراطية والشروط الإضافية التي تفرض على المعونات الإنسانية مخاوف من انتهاك النظام السوري للقانون الإنساني الدولي.
وأضاف التقرير أن رفض “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” السماح للنظام السوري والأطراف الأخرى بإرسال المساعدات الإنسانية المحايدة والمطلوبة على وجه السرعة إلى المحتاجين في شمال غربي سوريا تشكل انتهاكاً لالتزاماتهما بموجب القانون الدولي.
الاعتقال التعسفي والتعذيب مستمران
ووثقت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا استمرار التعذيب وسوء المعاملة خلال الفترة المشمولة بالتقرير، كما وثقت مرة أخرى حالات الوفاة أثناء الاحتجاز، وتواصلت أيضاً عمليات الاعتقال والاحتجاز التعسفيين على أيدي قوات النظام السوري، بطرق متعددة، بما فيها تطبيق قانون الجرائم الإلكتروني لقمع انتقاد الخدمات أو سياسات النظام السوري، وقانون استخدام العملات الأجنبية ضد المعارضين.
وأفاد التقرير أن عشرات الأشخاص، بمن فيهم أشخاص أجروا مصالحات مع النظام السوري، تم احتجازهم واعتقالهم في درعا، ومنعوا من الاتصال مع ذويهم، في حين وثّقت اللجنة حالات الناشطين والقادة المجتمعيين الذين قُبض عليهم واحتجزوا بسبب ممارستهم حرياتهم الأساسية، أو استدعتهم الأفرع الأمنية مراراً لاستجوابهم بتهم ماثلة.
وواصلت المحاكم استخدام الاعترافات القسرية، وصرح بعض الأشخاص، بما فيهم محكومون بالإعدام، بأنهم احتجزوا لأسابيع دون السماح لهم بالاتصال بمحام، في حين حُكم على آخرون بالإعدام غيابياً دون أن يمثلهم محام.
سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين والعائدون يواجهون الانتهاكات
وعن عودة اللاجئين السوريين، شددت اللجنة على أن سوريا تظل مكاناً غير آمن للعائدين، مشيرة إلى اعتقال العديد من العائدين، بما فيهم نساء وأطفال، وتعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة من قبل الأجهزة الأمنية بهدف الحصول على معلومات واعترافات قسرية.
كما أعيد مئات اللاجئين السوريين من لبنان خلال الفترة المشمولة بالتقرير، بما فيهم أشخاص أجبروا على العودة بطرق رسمية وغير رسمية بعد إنقاذهم من سفينة غارقة، في حين احتجز بعضهم من قبل “الفرقة الرابعة” أو من قبل المهربين.
كما هُدد العديد منهم بتسليمهم إلى الأجهزة الأمنية أو الزج بهم في السجن ما لم يدفعوا مبالغ كبيرة من المال، وأطلق سراح الذين دفعوا وتمكنوا من العودة إلى لبنان، في حين سُلم الآخرون إلى قوات النظام السوري وتم احتجازهم، وفقد العديد من العائدين، بما فيهم أطفال، دون أن يُعرف مصيرهم.
وقال التقرير إن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن النظام السوري يواصل ممارسة أفعال التعذيب وسوء المعاملة ضد الأشخاص المحتجزين، بما في ذلك الممارسات التي تسبب الوفاة أثناء الاحتجاز، والاحتجاز التعسفي، فضلاً عن الانتهاكات المتواصلة للحق في محاكمة عادلة، والاحتجاز مع منع الاتصال، وحالات الاختفاء القسري، مما يؤدي إلى استمرار أنماط الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
وأضافت لجنة التحقيق الدولية المستقلة أن النظام السوري يواصل انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحق في حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات.
انتهاكات “تحرير الشام” و”الجيش الوطني”
وعن الانتهاكات شمال غربي سوريا، قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة إن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن أعضاء “هيئة تحرير الشام” تواصل سلب الناس حريتهم تعسفاً، وتحتجزهم أحياناً مع منع الاتصال، بما في ذلك بسبب التعبير السلمي عن آرائهم السياسية.
وقال التقرير إن عناصر “هيئة تحرير الشام” مارسوا التعذيب والمعاملة القاسية التي ترقى إلى جرائم حرب، وأصدروا وأنفذوا أحكاماً ونفذوا عمليات إعدام دون أحكام مشكلة تشكيلاً نظامياً، الأمر الذي يرقى إلى جرائم حرب.
وأضاف أن عناصر “الجيش الوطني السوري” استمروا في سلب الأفراد حريتهم تعسفاً، وربما ارتكبوا جريمة حرب متمثلة بالتعذيب والمعاملة القاسية.
وأشار إلى أن تركيا تظل مقيدة بالتزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك منع التعذيب عند وجود مسؤولين تابعين لها في إشارة إلى الجيش الوطني.
“قسد”: سلب للحريات وتعذيب وتجنيد للأطفال
وفي شمال شرقي سوريا، قالت اللجنة إن “قوات سوريا الديمقراطية” تستمر في سلب الأفراد حريتهم بشكل غير قانوني، بما في ذلك بطرق ترقى إلى الاختفاء القسري في بعض الحالات.
وأعربت اللجنة عن مخاوف من أن تكون أعمال تعذيب المحتجزين في سجني الحسكة والرقة وسوء معاملتهم قد أسهمت في وفاتهم، وترقى ظروف الاحتجاز في هذين السجنين، بما في ذلك عدم توفير المساعدة الطبية الكافية، إلى سوء المعاملة وجرائم الحرب.
وفي مخيمات الاحتجاز، خلصت اللجنة إلى أن الاعتقال الشامل المطوّل دون مراجعة فردية أو منتظمة لما يقرب من 51600 شخص في مخيمي الهول والروج، إلى سلب الحرية بطريقة غير قانونية، وترقى الظروف في كلا المخيمين إلى المعاملة القاسية أو اللاإنسانية.
ووثّق التقرير اختطاف أطفال من قبل جهات تابعة لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، وعلى الرغم من توقيع الأخيرة على خطة عمل لإنهاء تجنيد الأطفال واستخدامهم في النزاعات المسلحة، لم تف بالتزاماتها لاستمرار ارتكاب جريمة الحرب المتمثلة في تجنيد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً في القوات أو الجماعات المسلحة.
توصيات اللجنة لأطراف النزاع وللأمم المتحدة
وعن التوصيات، أورد تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا التوصيات التالية لجميع أطراف النزاع:
- الوقف الفوري لجميع الهجمات العشوائية والمباشرة على المدنيين والأعيان المدنية، واتخاذ جميع الاحتياجات الممكنة لتقليل الضرر اللاحق بالسكان المدنيين، وإجراء تحقيقات مستقلة ونزيهة وذات مصداقية في حوادث خسائر المدنيين.
- ضمان التحقيق في جميع التقارير الموثوقة عن جرائم القتل بحق المدنيين، والوفيات أثناء الاحتجاز.
- الوقف الفوري للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، بما في ذلك العنف الجنسي والجنساني في جميع أماكن الاحتجاز.
- الإفراج عن المحتجزين تعسفياً، وضمان مساءلة الجناة من خلال محاكمات عادلة.
- وقف جميع حالات الاحتجاز مع منع الاتصال والاختفاء القسري، واتخاذ التدابير الممكنة لتحديد مكان جميع المحتجزين والمختفين، وتحديد مصيرهم أو أماكن وجودهم، وضمان التواصل مع أسرهم.
- دعم المؤسسة المستقلة المنشأة حديثاً بولاية دولية لتنسيق وتجميع المطالبات المتعلقة بالمفقودين، بمن فيهم الأشخاص الذين تعرضوا للاختفاء القسري.
- اتخاذ إجراءات قوية وفعالة لإنهاء تجنيد الأطفال.
- احترام وحماية حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، وتكوين الجمعيات والتنقل، فضلاً عن حقوق الملكية، بما في ذلك حقوق اللاجئين والمشردين داخلياً.
- السماح بمرور المساعدات الإنسانية المحايدة إلى المدنيين المحتاجين، سواء عبر الحدود أو عبر خطوط التماس، مروراً سريعاً وسلساً ودون أي تمييز سلبي، إلى جميع مناطق سوريا، بما في ذلك شمال غربي سوريا وشمال شرقها ومخيم الركبان.
- الكف عن عدم الموافقة التعسفي على وصول المساعدات الإنسانية على أساس الاختلافات السياسية أو الإيديولوجية، وكذلك فرض شروط لا مبرر لها للموافقة غير المنصوص عليها في القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك المتطلبات البيروقراطية المفرطة، وغيرها من المتطلبات التي تستهدف الجهات الفاعلة في المجال الإنساني.
وبالإضافة إلى ذلك، أوصت لجنة التحقيق الدولية المستقلة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بما يلي:
- إعادة مواطنيها المحتجزين في شمال شرقي سوريا بسبب ارتباطهم المزعوم بـ “تنظيم الدولة”، مع إعطاء الأولوية للأطفال المحتجزين مع أمهاتهم.
- مواصلة السعي إلى تحقيق المساءلة في سوريا، بسبل منها ضمان فعالية البنية التحتية للتشريع والتحقيق والقضاء والادعاء العام والاستثمار فيها.
- دعم إنشاء وتمويل المؤسسة الجديدة المعنية بالمفقودين، لا سيما فيما يتعلق بدعم عائلات المفقودين والمختطفين.
- ضمان أن تكون أي عملية عودة طوعية وآمنة وكريمة ومستدامة إلى الوجهة التي يختارها العائد، ودون التعرض لخطر الأذى الجسدي أو أي انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية الخاصة به.
- إجراء تقييمات مستقلة لتأثير التدابير القسرية الانفرادية، بغية تخفيف الآثار غير المقصودة على الحياة اليومية للسكان المدنيين، بطرق منها تبسيط إجراءات الإعفاء المعقدة لأسباب إنسانية.
- اتخاذ إجراءات قوية لضمان وصول المساعدات الإنسانية وإيصالها بشكل فعال، وتعزيز التضامن وتوطيد دعم الجهود الرامية إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية لجميع السوريين، بما فيهم النازحون داخلياً واللاجئون، وتوفير تمويل مستدام لبرامج دعم وتمكين المرأة في الجمهورية العربية السورية.