اقتصاد المغتربين
في 4 أغسطس (آب) 2020، هز انفجار مهول قلب العاصمة بيروت، أتى على المرفأ الذي يشكل شرياناً حيوياً للبلاد، ولكن في ذاك اليوم، صمد تمثال المغترب من الدمار. قد يرى البعض في ذلك إشارة غيبية، حافظت على الذاكرة الجمعية للبنان، وكرست مكانة من أسهموا منذ الموجة الأولى للهجرات في منتصف القرن الـ19 في الإبقاء على هذا البلد.
في صيف عام 2023، تقدر وزارة السياحة اللبنانية قدوم مليوني زائر إلى لبنان، تبلغ نسبة اللبنانيين منهم 63 في المئة. ويعد هذا الرقم “قياسياً” مقارنة بالأعوام السابقة، التي تخللتها سياسات الإغلاق بفعل جائحة كورونا، وموجة هجرة كبيرة للشباب اللبناني، ونفور من الوضع السياسي والاقتصادي العام في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي المتسارع.
في هذا الصيف، عاد المغترب اللبناني، مساهماً في نهضة كبيرة في القطاعات السياحية، وسط زحمة في المطاعم والمقاهي، والمنتجعات البحرية والجبلية، ناهيك بحجوزات فندقية مرتفعة، وانطلاق المهرجانات الدولية العريقة في بعلبك وبيت الدين، ناهيك بحفلات كبار النجوم العرب، الأمر الذي يفتح الباب للحديث عن “اقتصاد المغتربين” الذي ينشط ظرفياً الوضع الاقتصادي للبلاد، ولكنه غير قادر على تحقيق نمو مستدام، وتصحيح المسار المتعثر في ظل غياب الإصلاح، وإحجام الاستثمارات الخارجية عن خوض “المغامرة” في لبنان.
خدمات لا بد منها
يقود المسار الحالي للسؤال عن القطاعات الأخرى التي يقبل عليها المغترب اللبناني لسبب أو لآخر. يأتي القطاع الطبي والاستشفائي في مقدمة تلك القطاعات التي ما زالت تحظى بثقة المغترب اللبناني، وتحديداً المستشفيات الجامعية. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الباحثين عن الجمال، حيث يقبل مغتربون على عمليات التجميل.
تقيم آمنة مع عائلتها خارج لبنان منذ عقدين من الزمن، وتأتي إلى لبنان من أجل متابعة ملفها الصحي، مؤكدة أنه “على رغم كل ما يقال ما زال في لبنان أطباء أكفاء يمتلكون العلم والخبرة”، ولكنها “لاحظت الاكتظاظ في عيادة الطبيب الحسن السمعة الذي تزوره، ربما بسبب هجرة زملاء له إلى الخارج”، كما تشير في المقابل إلى أن “انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار أسهم في تخفيف الأعباء وتحديداً عند زيارة التشخيص، أو المراجعة، حيث تتراوح بين 30 و50 دولاراً أميركياً، فيما يتقاضى الطبيب خارج لبنان بين أربعة وخمسة أضعاف ذلك، كما أن التحاليل والفحوص التي نجريها في لبنان ما زالت تحظى باحترام وتقدير الأطباء في الخارج”.
قطاع المجوهرات والسيارات
كما تشهد بعض القطاعات نهضة “ظرفية” على غرار المجوهرات والملابس ومتاجر التذكارات ومكاتب سيارات الأجرة.
ويقلل خالد زريقة صاحب مؤسسة لتأجير السيارات من أهمية ما يحكى في الإعلام عن نهضة اقتصادية، وتنشيط للقطاع بصورة غير مسبوقة، مؤكداً أن “أثر المغتربين محدود، حيث يأتي المغترب ليستأجر السيارة لفترة 10 أيام، كما أنه يفاوض لنيل سعر مخفض لأنه يدرك حقيقة الأوضاع في البلاد”. ويلفت إلى أن “الإقبال يتركز على السيارات الصغيرة التي تتراوح أجرتها بين 25 و30 دولاراً أميركياً، فيما يأتي الطلب على السيارات الكبيرة والفخمة في مناسبات الأعراس، ولمدة يوم واحد في أكثر الأحيان”، لافتاً إلى أن “القطاع يعتمد في شكل كبير على الجمعيات الأهلية وتلك الناشطة في العمل مع اللاجئين”، كما يشكو زريقة من عدم قدرة أصحاب المكاتب على تجديد أسطول سياراتها لأن “سعر السيارة الصغيرة الجديدة يتراوح بين 9 و12 ألف دولار أميركي، وهو رقم خيالي بالنسبة إلى التاجر في لبنان حالياً في ظل محدودية الدخل، وعدم القدرة على الوصول إلى مدخراته”.
الاغتراب وتنشيط بعض القطاعات المستدامة
لطالما أسهم المغترب اللبناني وما زال في نهضة البلد وبقائه في ظل الاضطرابات والانهيارات الاقتصادية المتتالية، ولولا تحويلات المغتربين لكان الوضع أصعب مما هو عليه بكثير، وبحسب تقديرات البنك الدولي بلغت التحويلات الأجنبية بالعملة الصعبة إلى لبنان 6,4 مليار دولار أميركي خلال عام 2022، ولكن ما يمكن ملاحظته هو الاختلاف في توظيف تلك التحويلات، بحسب المتخصص في الشأن الاقتصادي بلال علامة الذي قال، “في السابق، لعبت هذه الحوالات دوراً في تنشيط بعض القطاعات كالعقارات، ولكنها تحولت الآن إلى تأمين صمود الأهل في لبنان، وتعويض غياب مظلة الحماية الاجتماعية الواجبة على الدولة، ومن أجل دعمهم، وهذا الأمر يحفز الاستهلاك، ويحقق الحد الأدنى من الأمن الاجتماعي”.
ويصف علامة ما يجري خلال فصل الصيف والأعياد بـ”الفورة الموسمية”، حيث يستقطب اللبنانيين المقيمين في الخارج، الذين يعودون لزيارة أهاليهم والاطمئنان عليهم. ويضيف “هناك مبالغة في طرح المنافع والفوائد، على رغم المنفعة الإيجابية للاقتصاد”، من هنا، “نحن أمام نشاط اقتصادي ظرفي ومع انتهاء فصل الصيف سيعود الأمر إلى سابق عهده” بحسب علامة، الذي يلاحظ أن “أثر الأموال التي تنفق يسهم في بعض بث الحياة في قطاعات المطاعم والفنادق، والأمور المتصلة بها”.
يتضح أثر هذا النشاط على “الإنفاق الاستهلاكي”، وزيادة مبيعات المتاجر، “فهو يعدل في وضعية الاقتصاد الكلي، ويخفف معدلات النمو السلبي، ولكنه لا يحدث نتيجة ملموسة على المستوى العام لأن نمو الاقتصاد يصبح في مستوى واحد في المئة، ولا يدخل في إطار الهيكلة والتنمية القطاعية”.
وينبه بلال علامة من أثر سلبي لارتفاع أسعار الخدمات في لبنان، موضحاً أن “اللبناني الوافد يتصرف بعقلية المقيم، لذلك هو يقيس الأسعار وفق وضع أهله، والواقع القائم في البلاد، لذلك فهو يشعر بالغلاء الكبير جداً، حيث بدأ البعض منهم بقضاء أيام محددة في لبنان، قبل المغادرة إلى بعض البلدان المجاورة كتركيا وقبرص واليونان لإكمال الإجازة الصيفية”.
القطاعات المفضلة للمغتربين
وفي العودة إلى الوراء، تركز “الاستثمار الاغترابي” على بعض القطاعات، حيث يؤكد بلال علامة “انتقال المال المغترب بين القطاعات في لبنان، فقد تركز في مرحلة العز، أي خمسينيات وستينيات القرن الماضي على قطاع السياحة، وكذلك في القطاع المصرفي، إلى حد وصف لبنان بسويسرا الشرق. أما خلال الحرب الأهلية، تحولت التوظيفات الاغترابية إلى القطاع الاستثماري والتجارة خلال الحرب في ظل توزيع وفرز المناطق. وشهد بعد انتهاء الحرب فورة القطاع العقاري، الذي بلغ أوجه بين عامي 2000 و2010، حيث أقبل المغترب على شراء العقارات من جهة، وإيداع أمواله في القطاع المصرفي لقاء معدلات فائدة مرتفعة، وقطاع التأمين أي في الاقتصاد الريعي”، كما يلفت إلى أنه في ظل الانهيار، تحولت الاستثمارات من القطاع المصرفي، إلى أماكن أكثر أماناً كالعقارات، وقطاع السياحة، معبراً عن أسفه لـ”إحجام بعض الأموال الاغترابية عن القدوم إلى لبنان بسبب عدم الثقة بالأوضاع من جهة، وعدم تأمين أرباح من جهة أخرى”.