والأسبوع الماضي، حذّر نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون آسيا والشرق الأوسط بمكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية، جيسي بيكر، خلال زيارته لبنان من مخاطر استخدام القطاع المالي لهذا البلد لتمويل حركة حماس وحزب الله، حيث دعا المسؤولين السياسيين والماليين اللبنانيين الذين التقى بهم إلى اتخاذ “تدابير استباقية” لمنع ذلك.
ويوجد في لبنان اليوم 297 صرافاً شرعياً فقط، بينما يُقدر عدد الصرافين غير الشرعيين بالآلاف، وفقاً لما يؤكده نقيب الصرّافين في لبنان مجد مصري لموقع “الحرة”، “يختبئون تحت أسماء مكاتب تحويلات مالية مرخصة كوكلاء عنهم، يعملون من دون حسيب أو رقيب، مما يجعلهم عرضة لمرور الأموال المشبوهة من دون قصد”.
هذه الشركات ومكاتب التحويلات المالية، إلى جانب الاقتصاد النقدي الذي يقدر البنك الدولي أنه يصل إلى ما يقرب من 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، قدمت حلولاً للأشخاص والمجموعات المحظورة من النظام المالي الرسمي بسبب العقوبات الأميركية.
يذكر أنه بعد الاعتماد الرئيسي على القطاع المصرفي في لبنان، هزّ توقف المصارف عن دفع أموال المودعين الثقة بهذا القطاع، مما دفع نحو “اقتصاد الكاش”، وما نتج عن ذلك من مخاطر لاسيما سهولة وصول الأموال “غير الشرعية” لأفراد وكيانات مشبوهة بعيداً عن أي رقابة رسمية.
وقال وليد الكيلاني، المتحدث باسم حماس في لبنان، لوكالة “أسوشيتد برس” إنه ليس لديه “معلومات” بشأن هذا الأمر.
وتأتي زيارة المسؤول الأميركي في ظل توقف المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في غزة، وزيادة القلق من تصعيد إقليمي خلال شهر رمضان المبارك، ووقوع اشتباكات شبه يومية بين حزب الله والقوات الإسرائيلية منذ أكثر من خمسة أشهر.
أهداف الزيارة
لا تشكل زيارات وفد الخزانة الأميركية، خاصة من مديرية مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، حدثاً استثنائياً كما يقول خبير المخاطر المصرفية والباحث الاقتصادي، الدكتور محمد فحيلي “فهي حدث روتيني يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد مع قرار الحكومة اللبنانية ربط مصير العملة المحلية بالدولار وتوجه لبنان نحو الدولرة الكاملة بعد انتهاء الحرب الأهلية، كجزء من تعاون مستمر بين البلدين في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”.
اهتمام الخزينة الأميركية بلبنان طبيعي في ظل الأوضاع الراهنة، كما يرى فحيلي لا سيما في ظل الأزمات التالية “وضع مصرفي متأزم، واعتماد مفرط على الأوراق النقدية الأميركية في التبادل والتداول داخل الاقتصاد اللبناني، وتوجه السلطة اللبنانية في موازنة العام الحالي إلى الدولار كعملة أساسية في احتساب الإيرادات والنفقات، بدلًا من العملة الوطنية، إضافة إلى وجود سلسلة عقوبات أميركية على كيانات لبنانية أو عاملة في لبنان وأفراد لبنانيين”.
تسعى الخزينة الأميركية من خلال زياراتها إلى لبنان إلى التأكد، بحسب ما يقوله فحيلي لموقع “الحرة” “من التزام القطاع المصرفي بالعقوبات المفروضة، ولا تُعدّ هذه الزيارات رسالة سلبية، بل رسالة داعمة، حيث لم يتخذ الوفد أي قرارات تمنع السلطة اللبنانية من التوجه نحو الدولرة أو تمنع المصرف المركزي من تأمين مدخرات الدولة لدفع رواتب وأجور ومصاريف الوزارات.
كما تسعى الولايات المتحدة أيضاً من زياراتها المتكررة إلى “مراقبة الوضع للتأكد من عدم سوء استخدام الدولار ووصوله إلى الأيادي الخاطئة، ومن ناحية سياسية، يثير توحيد الساحات والجبهات بين لبنان وغزة اهتمام الخزينة الأميركية، وذلك للتأكد من عدم وجود أي كيان من مكونات القطاع المالي في لبنان يقوم بتسهيل تمويل مؤسسات أو تنظيمات تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية”.
ويعدّ هذا الاهتمام بحسب خبير المخاطر المصرفية “أمراً طبيعياً، خاصة في ظل فترة السماح التي يتمتع بها لبنان من مجموعة العمل الدولي المالي فيما يتعلق بتصنيفه على اللائحة الرمادية أو السوداء في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إذ تبحث الخزينة الأميركية الآن فيما إذا كان لبنان يتخذ الإجراءات الصحيحة لتجنب التصنيف كدولة غير متعاونة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”.
وبناءً على الدراسة التي أجرتها “المينافاتف”، وهي جهة رقابية دولية تراقب سلامة الوضع المالي للدول وتضعها على اللوائح الرمادية أو السوداء، التي أظهرت كما يقول مصري “وجود حاجة إلى تحسينات في بعض القطاعات، بما في ذلك القطاع المالي، تواصلنا مع مصرف لبنان وعرضنا إقامة لقاء تدريبي للصرافين الشرعيين بشأن كيفية الوقاية من التعامل مع الأموال المشبوهة”.
ويشرح مصري “يواجه الصرافون صعوبة في تحديد ما إذا كانت الأموال التي يتعاملون بها مشبوهة، خاصة عند التعامل مع زبائن جدد. لذلك، قمنا بمبادرة إطلاق تطبيق إلكتروني يجمع أسماء المدرجين على اللوائح السوداء الدولية، بما في ذلك لوائح الأمم المتحدة وقوى الأمن الداخلي اللبناني، بالإضافة إلى الأسماء الواردة في لوائح مكتب مراقبة الأصول الأجنبية العائد لوزارة الخزانة الأميركية”.
وباستخدام هذا التطبيق، يمكن للصراف “التحقق من اسم الزبون للتأكد من عدم وجوده على أي من هذه اللوائح، مما يساعد في تحديد ما إذا كانت الأموال التي يتعامل بها مشبوهة من عدمه”.
“لقاءات إيجابية”
أعرب وفد وزارة الخزانة الأميركية بحسب الصحفية الاقتصادية والباحثة بالجرائم المالية، محاسن مرسل “عن الرضا الكبير للتدابير المتخذة وكيفية تعاطي مصرف لبنان مع السياسة النقدية الجديدة المتبعة من قبل حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ونوابه، ومن قبل المجلس المركزي بشكل عام، كما أبدى الوفد الرضا عن توجه الحاكمية الجديدة إلى امتصاص النقدية الزائدة في الاقتصاد”.
وسبق أن أظهرت الردود الدولية الموحدة على سياسات وسيم منصوري، وزيارات السفراء الأجانب ووفد الكونغرس، “الدعم للحاكم الجديد” كما تقول مرسل لموقع “الحرة” “وتأييدهم لتوجهاته التي تتماشى مع المعايير الدولية، خاصة تلك المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال وتعزيز الاقتصاد النقدي”.
وحرصت الخزينة الأميركية، وفقاً للباحثة في الجرائم المالية “على الاستفسار عن التعميم 165 الصادر عن حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة. في أبريل الماضي، الذي بدأ العمل به في شهر يونيو لتنظيم عمليات التسوية الإلكترونية للأموال النقدية، وبالتحديد الأموال التي حوّلت من الخارج أو تم تلقيها أوراقا نقدية بالعملات الأجنبية بعد تاريخ 17 نوفمبر 2019، وكذلك الأموال المودعة، أو التي ستودع أوراقاً نقديّة في حسابات جديدة بالليرة اللبنانية”.
وتضيف: “هدف التعميم زيادة الشفافية في النظام المالي اللبناني، وتحسين قدرة مصرف لبنان على مراقبة حركة الأموال، والحد من عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتسهيل عمليات التسوية الإلكترونية للأموال النقدية، أما علامات الاستفهام والمخاوف التي يبديها البعض منه، ومنهم بيكر، لاسيما لجهة سماح التعميم بفتح حسابات مصرفية جديدة بالفريش دولار، وبالتالي إمكانية أن يكون معبراً لتبييض الأموال، فغير دقيقة، لأن الكلفة المالية الكاملة في مصرف لبنان لمقاصة الشيكات بالدولار الفريش وفقا لهذا التعميم تتراوح فقط بين 10 و15 مليون دولار”.
وكان المتحدث باسم مصرف لبنان المركزي، حليم برتي، أكد لوكالة “اسوشيتد برس” أن مسؤولين في المؤسسة التقوا بيكر ووصف اللقاءات بأنها “إيجابية للغاية”، وقال إن البنك المركزي يقوم بدوره لتنظيم شركات الخدمات المالية المرخصة، لكن أولئك الذين يعملون دون ترخيص “ليسوا ضمن ولايتنا القضائية” ويجب التعامل معهم من خلال سلطات إنفاذ القانون.
تحديات كبيرة
تعدّ ظاهرة تبييض الأموال وتمويل الارهاب من أبرز التحديات التي تواجه الدول التي تعاني من انهيار اقتصادي، مثل لبنان وفنزويلا والعراق وسوريا، كما تقول المتخصصة بالاقتصاد النقدي الدكتور ليال منصور، وتشرح أنه “في ظل هذه الظروف، يضعف القطاع المصرفي، ويتوقف التعامل بالتحويلات المصرفية، مما يدفع الاقتصاد نحو الاعتماد بشكل كبير على النقد، غالباً من مصادر غير شرعية”.
ويزداد الأمر تعقيداً، بحسب ما تقوله منصور لموقع “الحرة”، “مع ضعف الحكومة والقضاء وغياب السياسات المالية، وعندما يكون للمسؤولين مصلحة في دخول الأموال بطرق غير شرعية عبر مؤسسات مالية غير مرخصة أو عبر المطارات والموانئ، التي قد تكون مصادرها من تجارة المخدرات أو استغلال البشر أو غيرها من الأنشطة غير القانونية”.
ويمثل الاقتصاد النقدي تحدياً كبيراً، لا سيما للدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، وفقاً لمرسل، وتشرح أنه “حتى عام 2001 كان لبنان مرتعاً لتبييض الأموال وتمويل الارهاب، وبعد ذلك، تم وضع قوانين مصرفية، بما في ذلك تنظيم العمل المصرفي، بهدف التصدي لهذه الآفة”.
وفي عام 2015، تم إقرار قانون الضرورة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والفساد، بحسب ما تقول مرسل “وبموجب ذلك جرى إغلاق الحسابات المصرفية التي تعود لحزب الله أو لأي كيان أو شخص مدرج على القوائم السوداء التي يصدرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية العائد لوزارة الخزانة الأميركية، وهذا يعد جزء من استجابة لبنان للمعايير الدولية في مجال مكافحة الجرائم المالية”.
وفيما يتعلق بتمويل حماس، فإن الأمر الإيجابي، كما ترى مرسل، أنه “لا يوجد حوالات مالية مباشرة بين لبنان وفلسطين، وفي ذات الوقت يواصل الحاكم الحالي للمصرف المركزي ضبط عمل المؤسسات المالية، خاصة غير المصرفية، وذلك لضمان التزامها بالقوانين والمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب”.
وتشدد : “تُمثل المؤسسات المالية غير المشروعة تهديداً خطيراً للاقتصاد اللبناني، إذ تشارك في غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعرقل الاستثمارات الأجنبية. على سبيل المثال، شركات تحويل الأموال غير المرخصة وشركات الصرافة غير المرخصة بالإضافة إلى شركات الاستثمار الوهمية والمنصات الإلكترونية لتداول العملات الرقمية غير المرخصة”.
إجراءات المواجهة
يُعدّ دخول الأموال بطرق غير شرعية سيفا له حدين، كما تصف منصور، إذ “يساهم في دعم اقتصاد البلد الفاشل من جهة، بينما يؤدي في الوقت نفسه إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الرسمي ويضر بالاعتراف الدولي بالاقتصاد الشرعي من جهة أخرى، وفي غياب سيطرة السلطة، يزداد تدفق الأموال غير الشرعية، ويعدّ دليلًا على انحلال الدولة، مما يعيق إبرام الاتفاقيات التجارية والاستثمارية الخارجية معها”.
وكان المسؤول في الخزانة الأميركية قال لوكالة “أسوشيتد برس” إن إظهار لبنان التزامه بالمعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أمر أساسي لجذب الاستثمارات من الولايات المتحدة، وبقية العالم وإخراج البلاد من أزمتها التي طال أمدها.
ويُعدّ موضوع تمويل المنظمات المصنفة إرهابية من أهم التحديات التي تواجهها الدول العربية، بما في ذلك لبنان، بحسب مرسل التي تعتبر أن السيطرة على الاقتصاد النقدي عملية تستغرق وقتاً نظراً لتعقيدها وتشعبها.
وتضيف “عندما اتهم رياض سلامة بتبييض الأموال والفساد، أثيرت مخاوف بشأن سلامة القطاع المالي اللبناني، إلا أن هذه المرحلة انتهت مع الحاكمية الجديدة، أما الآن فمن غير الصحيح ما يتم تداوله مؤخراً بشأن رغبة بعض المصارف المراسلة بقطع علاقاتها مصرف مع لبنان، إذ إن العلاقات بين الطرفين مستمرة بشكل طبيعي”.
من جانبها ترى منصور أن ظاهرة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب تتطلب اتخاذ خطوات حاسمة، مثل “تشديد تطبيق القوانين المتعلقة بذلك، وتعزيز قدرات القضاء وجهود المراقبة والمحاسبة”.
كما يرى فحيلي أن القطاع المالي اللبناني يواجه تحديات كبيرة تتطلب إجراءات حاسمة، إذ يجب عليه “أولاً، إصدار تعميم من مصرف لبنان أو مراسيم من الحكومة أو قوانين من مجلس النواب لتنظيم العمل في القطاع المصرفي، ومن أهم هذه الإجراءات، التوجه نحو العودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي، مثل الشيكات وبطاقات الدفع والائتمان، والتخفيف من الاعتماد على الأوراق النقدية في التبادل والتداول التجاري داخل لبنان”.
“ثانياً، يجب على السلطة أو مصرف لبنان أو المصارف التجارية إيجاد طريقة لجذب المؤسسات لإعادة توطين رواتب وأجور موظفيها في حسابات مصرفية، وكذلك جذبها لبدء قبول وسائل الدفع المتاحة لتسديد فواتير الاستهلاك وما شابه”.
ويضيف أن “هذه الإجراءات يمكن أن تتخذها المصارف كمبادرة فردية وفق إمكانيات كل مصرف. ومن المعروف أن القطاع المصرفي اللبناني لم يعد على حاله السابق، إذ تظهر بوضوح الفجوة بين المصارف القادرة على الاستمرار في دعم الاقتصاد والمصارف الضعيفة، التي تسببت في تشويه سمعة القطاع المصرفي. تلك المصارف القادرة على الاستمرار حافظت على علاقات جيدة مع المصارف المراسلة، وتعاملت مع المخاطر المتعلقة بالائتمان وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب وسمعتها بشكل فعّال من خلال اتباع إجراءات صارمة مطلوبة من المصارف المراسلة”.
والمشكلة تكمن، كما يشدد فحيلي “في المصارف الضعيفة، التي أُطلق عليها بتحفظ “بنكرجية”، إذ تسببت هذه المصارف في الإضرار بسمعة القطاع المصرفي بشكل عام، بالإضافة إلى الأضرار الناجمة عن تجاوزاتها التي واجهها هذا القطاع خلال السنوات الماضية”.