تزداد المخاوف من إدراج لبنان على “القائمة الرمادية” للدول المتعاونة جزئياً في مكافحة تبييض الأموال المتأتية عن الفساد والإرهاب، نتيجة طبيعية لانتشار “اقتصاد الشنطة” والاقتصاد النقدي.
ويترافق هذا الأمر مع الأخطار الناجمة عن تخلف الدولة عن مفاوضة الدائنين الدوليين منذ مارس (آذار) 2020، مما يعكس إرباك الإدارة الرسمية في مواجهة الانهيار.
وأدى انهيار الثقة في القطاع المصرفي في لبنان إلى انتعاش الاقتصاد النقدي ونشاط شركات تحويل الأموال ومحال الصرافة غير الشرعية التي انتشرت في كل حي وزاوية.
وما كان يشكل نمطاً متبعاً من قبل الشخصيات والمنظمات الهاربة من العقوبات الأميركية والدولية، أصبح هو النموذج السائد في التعامل بين اللبنانيين داخلاً وعبر الحدود، وأخرج هذا الأمر جزءاً كبيراً من التداولات والتعاملات من دائرة الرقابة والتدقيق بالمصدر ومشروعيته، وهو أمر كانت تلتزم به المصارف إلى حد بعيد.
تاريخ مكافحة تبييض الأموال في لبنان
ويعود تاريخ مكافحة تبييض الأموال في لبنان على المستوى التشريعي لعام 2001، عندما أقر مجلس النواب في الـ 20 من أبريل (نيسان) 2001 القانون رقم (318) حول “مكافحة تبييض الأموال”، واضعاً إياه في خانة التماشي مع التطور في العلاقات الدولية وإصدار تشريع خاص، ذلك أن “المجتمع الدولي يتجه أكثر فأكثر نحو توثيق التعاون بين الدول من أجل التصدي للجرائم المنظمة عبر الحدود.
وقد اعتمدت المؤسسات العالمية معايير لهذا التعاون يتم على أساسها التقييم المتبادل لواقع الأنظمة القانونية في مختلف البلدان”، بحسب ما ورد في مقدم القانون.
واعتبر القانون تبييض الأموال كل فعل يقصد منه إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة، وتحويل الأموال أو استبدالها مع العلم بأنها أموال غير مشروعة لغرض إخفاء أو تمويه مصدرها أو مساعدة شخص ضالع في ارتكاب الجرم، وتملّك الأموال غير المشروعة أو حيازتها أو استخدامها أو توظيفها لشراء أموال منقولة وغير المنقولة أو للقيام بعمليات مالية، مع العلم بأنها أموال غير مشروعة.
في المقابل ألزمت المؤسسات الخاضعة للسرية المصرفية أو غير الخاضعة، باتخاذ الإجراءات الضرورية للتحقق من هوية الزبائن ومصدر الأموال.
المنطقة الرمادية
يعيش لبنان حال انتظار على مستوى علاقته مع المؤسسات المالية في الخارج، فالمفاوضات بينه وبين صندوق النقد الدولي في حال جمود، وهذا الأمر ينسحب على الدائنين وسندات الـ “يوروبوندرز”، لكن الأمر الذي أثار المخاوف أخيراً كان “احتمال وضع لبنان على القائمة الرمادية للدول التي تعاني ثغرات في مكافحة تبييض الأموال”.
وسرت توقعات بمنح لبنان فترة سماح من الآن ولغاية الخريف المقبل، تاريخ اجتماع مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط Financial Action Task Force، من أجل اتخاذ سلسلة إجراءات ضرورية لمعالجة القصور في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
وتعتبر المجموعة إطاراً دولياً لاستجابة عالمية منسقة لمنع الجريمة المنظمة والفساد والإرهاب، كما أنها تراقب التقدم الذي تحرزه الدول في هذا المجال، وقد تصل الإجراءات المقترحة إلى فرض تدابير رقابية قاسية تجاه الدول المرتفعة الأخطار ومنع التعامل معها، واتخاذ خطوات من قبل الجهات الرقابية لمنع إنشاء فروع أو مكاتب تمثيل للمؤسسات المالية والأعمال والمهن غير المالية، وغيرها من المؤسسات في الدول المدرجة ضمن القائمة السوداء، وصولاً إلى فرض عقوبات على تلك المؤسسات التي تخفق في تطبيق التدابير المطلوبة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ويؤكد الباحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية محمد فحيلي أن “مجموعة العمل المالي لا تفرض شروطاً وإنما تقدم توصيات، وتضم قائمتها 40 توصية يفترض بالدول الموقعة على الاتفاق الالتزام بها من أجل الحفاظ على تصنيفها”، مشيراً إلى أن التوصيات تتناغم مع القانون (44/(2015 الذي تضمن 21 جريمة مالية يجب مكافحتها، سواء تعلقت بالفساد والهدر أو الإثراء غير المشروع، وتمويل تبييض الأموال والإرهاب وغيرها من الجرائم المرتبطة بها.
وتضم التوصيات إجراءات لا بد للدولة من اتخاذها، وأخرى لا بد للقطاع المالي من الامتثال لها، ناهيك عن الإجراءات التي تتخذها الدولة وتنعكس مباشرة على القطاع الخاص بأسره لناحية التحقق من مصدر الأموال ومشروعيتها على سبيل المثال.
ويوضح فحيلي أنه “في حال التزمت الدولة بكامل توصيات مجموعة العمل المالي فستكون على اللائحة البيضاء، أما إذا كانت ممتثلة جزئياً للتوصيات الـ 40 فتوضع على اللائحة الرمادية”، كاشفاً عن أن “لبنان يمتثل لـ34 من التوصيات، وتبقى ست توصيات غير ملتزم بهم جزئياً”.
ويلفت إلى أن “لبنان حصل على فترة سماح، وأدركت المجموعة أن اللجوء بكثرة إلى الأوراق النقدية من قبل القطاع الخاص في التمويل التجاري جاء نتيجة الأزمة وفقدان الثقة بالمنظومة المالية، ولم تكن بسبب رغبة في تبييض الأموال، وقد برز المطلب بتفعيل أدوات الدفع المتاحة في القطاع المصرفي”.
كبح اقتصاد الكاش
وفي هذا السياق يشير الباحث في الشؤون الاقتصادية إلى التعميم رقم (165) الصادر عن مصرف لبنان في الـ 19 من أبريل (نيسان) 2023، وهو الممر الإلزامي للتخفيف من الاقتصاد النقدي، ذلك أنه سمح بفتح حسابات فريش بالدولار والليرة اللبنانية، ومنح دفاتر شيك فريش وبطاقات دفع فريش.
وهدف التعميم إلى الخروج من دائرة “أكياس الأموال” والتشجيع على استخدام وسائل الدفع المتاحة في المصارف التجارية، إلا أنه لاقى انتقادات حتى من نواب في البرلمان، وهذا الأمر لم يكن عنصراً داعماً لجهود وفد “مصرف لبنان” وهيئة التحقيق الخاصة أمام مجموعة العمل المالي في البحرين.
ويعتقد فحيلي ضرورة عدم النظر إلى تحرك مجموعة العمل المالي بوصفه ضد الاقتصاد الكاش، بقدر ما هو تحذير من فشل الطبقة السياسية في اتخاذ الإجراءات الضرورية لتصنيف لبنان على أنه ملتزم بالسياسات الدولية، مؤكداً أن “الكاش يعطي مساحة إضافة لمن يريد الاصطياد في الماء العكر وتبييض الأموال، ولكن المشكلة في وجود ضابط إيقاع للتدقيق في وصول الأموال إلى المجموعات المسلحة والمعاقبة دولياً”.
ويتطرق الباحث الاقتصادي إلى إمكانات الخروج من الأزمة التي تتطلب معالجة أزمة القطاع المصرفي، إذ يجب على المصارف التجارية القادرة على الاستمرار أخذ المبادرة تجاه المجتمع اللبناني لترميم الثقة والسماح بإعادة فتح الحسابات المقفلة ومنحهم إغراءات للعودة لهم، على أن يأتي بصورة لاحقة دور التشريع وسن القوانين، وتكريس بند “من يقترض أموال فريش يلتزم بردها فريش” لإعادة إطلاق الاقتصاد.
لبنان غير ممتثل كلياً
ينطلق عضو لجنة الامتثال في “نقابة المحامين” المحامي كريم ضاهر من المراجعة التي قامت بها جمعية العمل المالي عام 2022 وامتدت من شهر يناير (كانون الثاني) إلى يوليو (تموز)، إذ أظهر التقييم المعمق التزام لبنان بصورة مقبولة، واطلع هؤلاء على جهود الجهات المختلفة وعمل هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي، والامتثال داخل المصارف التجارية وخبراء المحاسبة واستخبارات الجيش والأمن العام والوسطاء العقاريين وكتاب العدل ونقابة المحامين.
وقال ضاهر، “استجوبنا فريق العمل وقمنا كنقابة المحامين بإبراز الجهود المبذولة لتأمين الامتثال لتوصيات مجموعة العمل المالي الغافي والفاتف، وكذلك تطبيق مندرجات القانون وكذلك الدليل الذي وضعته النقابة وتضمن آليات عملية لمساعدة أعضائها في تجنب الأخطار، وتحديداً المكاتب الكبرى التي تعمل في بعض المجالات، وتجري تعاقدات كبيرة من أجل سؤال زبائنها حول مصدر الأموال ومشروعيتها”.
وأضاف أنه “في يونيو 2023 منحت مجموعة العمل المالي مهلة وفترة سماح لاستدراك أوجه القصور”، موضحاً أنه “في هذا السياق برزت جهود حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري الذي عمل على وضع وإقرار التعميم (165)لمحاربة الاقتصاد النقدي”.
وأشار إلى أن “ثمة سلسلة زيارات قام بها مسؤولون إلى واشنطن من أجل تقديم تعهدات إضافية، وبحسب ما ينقل عن الحاكم بالإنابة فإنه أبعد الكأس المرة عن لبنان إلى أجل مسمى، وبالتالي الحصول على فترة زمنية للقيام بالخطوات الإضافية لمحاربة الاقتصاد النقدي”.
ويتحدث ضاهر عن ضرورة انتظار الخريف المقبل من أجل رؤية تصنيف لبنان، متوقعاً وضع البلاد على القائمة الرمادية للدول المتعاونة جزئياً التي يجب عليها تنفيذ البرنامج المقترح من المجموعة، جازماً أن “الخروج من الاقتصاد النقدي لا يمكن أن يكون إلا بمعالجة أزمة القطاع المصرفي وملف الودائع وإعادة الثقة، لأنه لا يمكن الاستمرار وفق الوضع الحالي من دون تحميل المسؤوليات”.
ماذا عن الـ “يوروبوندرز”؟
لا تقتصر الأخطار المالية الخارجية على القائمة الرمادية وإنما تتسع لتشمل الملاحقات القضائية وتقصير الدولة اللبنانية في مفاوضة الدائنين في الخارج، فقد شكل تخلف البلاد عن دفع سندات الدين الخاصة بها في السابع من مارس 2020 تحولاً على مستوى الأزمة، إذ ترسخت النظرة السلبية إلى أدائه الاقتصادي والائتماني على المستوى الدولي.
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي بلال علامة أن هذا الملف لا يقل خطورة عن أي موضوع آخر بسبب اهتزاز سمعة لبنان الائتمانية على المستوى الدولي، مشيراً إلى أن ما اتخذته حكومة حسان دياب من التوقف عن دفع الـ “يوروبوندز” والديون السيادية الأجنبية هو بمثابة إعلان إفلاس للدولة اللبنانية.
ويلفت علامة إلى “انهيار سعر سندات الدولة المفلسة، إذ يقدر ثمن السند حالياً بـ0.63 سنت، وإذا ما كانت الدولة اللبنانية راغبة في السداد فهذا ممكن حالياً، ولكن المشكلة أن الدولة قصرت في مفاوضة الشركات والحائزين من المؤسسات المالية”.
ويتخوف الباحث الاقتصادي من “محاصرة لبنان دولياً بسلسلة دعاوى يتقدم بها الدائنون لمقاضاة الدولة ومن ثم استصدار أحكام، وهذا ما سيفتح الباب إلى الإلزام بدفع قيمة السندات والفوائد المترتبة عليها والمستحقات المتصلة بها”.
وحذر علامة من أن “الأحكام القضائية تفتح باب التنفيذ على أصول الدولة اللبنانية”، متخوفاً من “أن تبلغ الأمور مداها في طلب الحجز على أملاك الدولة وجزء من الذهب، وإن كان الأمر يتطلب إجراءات قضائية طويلة”.