بدأت قصة قمر عام 2005 حين ارتبطت بشاب من مدينة حلب السورية، وبعدما رزقت منه بطفلين (حميدة ومحمد)، قررت الانفصال عنه لأسباب عدة، فكان عقابها على هذا القرار حرمانها من صغيريها الذين كانا يبلغان حينها أربع سنوات وسنتين، وتقول “منذ ذلك الحين وأنا أشعر أن روحي نزعت مني، فعلت كل ما في وسعي كي أعثر عليهما، لكن باءت كل محاولاتي بالفشل”.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، علمت قمر من عمّة ولديها أن والدهما اصطحبهما إلى تركيا، وأنهما لا يعلمان أنها على قيد الحياة، طلبت منها صوراً لتبرد ولو قليلاً نار الحرقة في قلبها، لكن بحسب ما تقوله لموقع “الحرة”، ” كان طليقي يمنع ذلك، يرفض أن يزوره أي أحد لعدم طمأنتي عن حالهما، لا بل أكثر من ذلك كان يرفض أن يتحدث أي من أقاربه معهما عبر خاصية الفيديو كول كي لا يتم التقاط صورة لهما”.
منذ أن انتزع صغيريها من حضنها توقفت عقارب الفرح في حياة قمر، وتشرح “كيف لأم أن تتحمل العيش من دون أن تعلم مصير ولديها، كيف تتم معاملتهما، هل يأكلان ويشربان جيداً. أمضيتُ سنوات أحاول اختلاس ولو ساعة نوم يومياً، كثرة التفكير كادت أن توصلني إلى الجنون، وقبل عشر سنوات تزوجت من عنصر في مخابرات الجيش اللبناني، انتقلت للعيش معه في بلده وحصلت على جنسيته”.
رزقت قمر (35 سنة) من زوجها الثاني بثلاثة أولاد، تتراوح أعمارهم اليوم بين سبع وتسع سنوات، من دون أن يخفف ذلك من ألمها على حميدة ومحمد، وتقول ” قبل الزلزال الذي ضرب تركيا في شهر فبراير الماضي، علمت ابنتي أنني على قيد الحياة من عمّتها، عندها أصرّت على التواصل معي، فسمح لها والدها بذلك شرط ألا تخبر شقيقها بالأمر، وبالفعل تلقيت اتصالاً منها، وحين رأيتها فقدتُ الوعي، شعرتُ أن معاناتي انتهت وأنه آن أوان الفرح، من دون أن أتوقع لوهلة أن ما ينتظرني أقسى بكثير مما مررت فيه”.
أخبرت حميدة (17 سنة) والدتها أنها ارتبطت بشاب لتعود وتنفصل عنه، وبأن كل حلمها أن تحتضنها، لكن قبل أن تتحقق أمنيتها لفظت آخر أنفاسها تحت أنقاض المبنى الذي كانت تسكنه في أنطاكيا، وتشير قمر إلى أنه بعد الزلزال اتصلت بها عمّة ولديّها لتعزيتها بوفاة ابنتها “كذلك فارق طليقي وزوجته وابنتهما الحياة، في حين كتب لابنهما وابني مزيداً من العمر”.
بعد الكارثة علم محمد (15 سنة) من عمّته أن والدته لم تمت كما سبق أن أخبره والده، وبأنها تسكن في طرابلس شمال لبنان، وعبر خاصية مكالمات الفيديو كان أول اتصال بينهما، وتشرح قمر “عندما رآني للمرة الأولى صدم، دقائق مرّت من دون أن ينطق بكلمة، قبل أن يجهش بالبكاء ويطلب الانتقال للعيش معي، لكن عمّه رفض بداية بحجة أنه من رائحة شقيقه”، وتضيف “يعاني محمد من درجة خفيفة من التوحد، وبحسب ما نقلته عمّته لي أن سبب ذلك يعود إلى الأدوية المهدئة التي كانت زوجة والده تعطيه إياها لأنه كان كثير الحركة في صغره”.
منذ أن تحدث مع والدته هرب محمد من منزل عمّه ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت الشرطة التركية تعيده إليه، بعدها اقتنع العمّ بأنه لن يهدأ ولن يستكين إلا في حضن والدته.
وتشرح الأم “بدأت أفكر في كيفية وصوله إلى لبنان كونه لا يملك جواز سفر، فكان الحل الوحيد عن طريق التهريب، استدنت المال وأرسلت المبلغ المطلوب إلى عمّه وبالفعل سلّمه قبل شهر ونصف الشهر إلى مهرّب لكن من دون أوراق ثبوتيّة ومن دون مرافق معه في الرحلة”.
على معبر باب الهوى، أوقف الشرطة التركية محمد، وتعلّق قمر “كنت أنتظره بفارغ الصبر، وإذ بي أصعق بالذي حصل، تم وضعه في دار أيتام في مدينة إسكندرون، طلبت من عمّه زيارته لكن انتظر نحو شهر كونه لا يملك المال لدفع كلفة التنقل، في حين وضعي المادي ليس أفضل حالاً منه، فزوجي تقاعد من المؤسسة العسكرية وراتبه لا يصل إلى خمسين دولار بعد انهيار قيمة العملة المحلية، وأنا مزينة شعر أحاول مساعدته بمصروف البيت من خلال العمل في بيتي”.
تصرّ إدارة الميتم بحسب ما تشدد قمر “على حضوري شخصياً مع أوراقه الثبوتية لاستلامه كونه قاصراً، وهذا أمر شبه مستحيل بالنسبة لي، أولاً كوني لا أملك المال للحصول على جواز وبطاقة سفر والأهم أن زوجي يمنعني من ترك أولادي الثلاثة والانتقال إلى تركيا والمكوث وحدي لحين تمكّني من العودة برفقة ابني الذي استحصلت على إخراج قيّد له يثبت هويته”.
لم يتحدث محمد مع والدته منذ إدخاله الميتم، وكما تقول “أخبرني عمّه أنه ينتظرني لإخراجه من هناك، وبين وضعه وحالة ابنتي الكبرى البالغة من العمر تسع سنوات أقف عاجزة”، وتشرح “قبل ست سنوات أصيبت بالتهاب في عينها، لاكتشف فيما بعد أن زميلها غرز قلما فيها، احتاجت حينها إلى زرع قرنية، لكن يبدو أن العملية باءت بالفشل”.
“ثلاثة عشر عاماً من إجباري على السير في قافلة القهر التي تشمل العديد من النساء لا لذنب ارتكبنه إلا لأنهن في مجتمع لا حصانة لهن فيه، يسمح للرجل بحرمانهن من أطفالهن فيما لو فكّرن يوماً الانتفاض والخروج عن الإطار المرسوم لهن ورفض الذّل والإهانة والعنّف”، تقول قمر مشددة “لا تنظير يحيط بوجعي ويشرح مدى تهشّم نفسيتي، ومع هذا يبقى أملي كبير بأن مدة زمنية قصيرة تفصلني عن الوصول إلى المحطة الأخيرة من رحلة معاناتي”.