وفي ظل هذه الأجواء المتوترة، تتصدر الأخبار على مدار الساعة تقارير بشأن تمسك حزب الله بتنفيذ رد ميداني “مؤلم ورادع”، وسط توقعات بتنفيذ وشيك لوعيده.
هذه التوقعات المتزايدة تترافق مع دعوات من دول عدة لرعاياها بمغادرة لبنان، إلى جانب تعديل شركات الطيران الوطنية والعربية والأجنبية لجدولة رحلاتها الجوية، وتعليق بعضها الرحلات إلى مطار بيروت الدولي.
وتزايدت المخاوف بين المواطنين مع تواتر الأنباء عن استعدادات الحكومة لمواجهة احتمال اندلاع حرب وشيكة. وتضمنت هذه الاستعدادات تأمين مراكز إيواء، ووضع خطة طوارئ صحية شاملة ورفع جاهزية الطواقم الطبية تحسباً لأي طارئ، وتقدير مدة توفر الإمدادات الغذائية والوقود.
يُذكر أن إسرائيل اغتالت شكر بعد اتهامها حزب الله، المدعوم من إيران، بالمسؤولية عن هجوم مجدل شمس الذي أدى إلى مقتل 12 فتى وفتاة وإصابة آخرين. وقد أعلن الجيش الإسرائيلي أن صاروخاً إيراني الصنع، يحمل رأساً حربياً يزن 50 كيلوغراماً أطلقه حزب الله، كان سبباً في وقوع هذه المجزرة.
“موت بطيء”
تعيش سناء، مثل غيرها من اللبنانيين، حالة من التوتر والترقب المستمرين منذ أن أعلن حزب الله نيته الرد على اغتيال شكر، وتقول: “بالفعل، تعبت نفسياً. الترقب أمر مرهق جداً، ومتابعة الأخبار لحظة بلحظة مدمرة. أنام وأستيقظ وأنا أترقب رد حزب الله، وأتساءل إن كان سيجر لبنان، وربما المنطقة بأكملها، إلى حرب كبرى.”
وما يزيد الطين بلة، بحسب ما تقوله سناء لموقع “الحرة”، أن “هناك مواقع إخبارية وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي يتداولون كل يوم أن الرد قد يحدث في غضون ساعات. أصبحت أستيقظ عدة مرات خلال الليل لألقي نظرة على المجموعات الإخبارية عبر واتساب، وأتابع موقع إكس بحثاً عن المزيد من الأخبار، فيما التلفاز لا ينطفئ أبداً، إذ أبقيه على المحطات الإخبارية.”
تشعر سناء وكأنها في حالة موت بطيء بسبب هذا الانتظار المرير، وتشدد: “انتظار المجهول الكارثي أمر صعب جداً. رغم أنني لا أسكن في معاقل حزب الله، لكن كما نعلم، الحزب متغلغل في مناطق عدة، وبالتالي لا أدري إذا كان لديه مكاتب أو مراكز بالقرب من منزلي، فيما وضعي المادي لا يسمح لي بالانتقال إلى جبل لبنان، كما فعل العديد من سكان الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت.”
وبعد تهديد حزب الله بالرد على مقتل شكر، سارعت سناء إلى شراء المؤونة ظناً منها أنه سينفذ وعيده سريعاً، لكن وفق ما تقوله “أطل أمين عام حزب الله حسن نصر الله ليعلن أنه (غير مستعجل)، مؤكداً أن هذا التأخير جزء من الحرب النفسية ضد الإسرائيليين، من دون أن يعلم أنه يدمرنا نفسياً، فنحن نترقب حرباً مدمرة في وقت تعجز فيه حكومتنا عن تأمين الحد الأدنى من حقوق مواطنيها، كالاستشفاء والكهرباء.”
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، يخشى اللبنانيون من عدم قدرة الحكومة اللبنانية على تأمين متطلبات الصمود لمواجهة الحرب المحتملة.
وتشرح سناء: “في الوقت الذي تداولت فيه أخبار عن تجهيز الإسرائيليين لمولدات كهرباء للملاجئ، نحن كلبنانيين نعاني من انقطاع دائم للكهرباء حتى دون وجود حرب. الاستشفاء أصبح حكراً على الميسورين مادياً بسبب ارتفاع الفواتير، وهجرة الأطباء الأكفاء، أما الأدوية فباتت لمن استطاع إليها سبيلا، وبعضها مفقود من الصيدليات، والرواتب لا تكاد تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية”.
وكانت الحكومة اللبنانية أعلنت في 31 أكتوبر، خطتها المستندة إلى عدة افتراضات مبينة على مقارنة معيارية لما حدث في حرب يوليو 2006، منها تهجير قسري لمليون لبناني لمدة تصل إلى 45 يوما، والحاجة إلى مراكز إيواء جماعية تستوعب 20 في المئة من النازحين، أي نحو 200 ألف شخص، والضغط على القطاع الصحي وتأمين المستلزمات الإنسانية للنازحين في مراكز الإيواء، إضافة إلى حصار بحري وجوي.
وتهدف الخطة إلى تلبية احتياجات 3 فئات من اللبنانيين: النازحون في مراكز الإيواء، النازحون في شقق ومنازل خاصة، والمجتمع المضيف.
بين حصارين
يشعر سليم بثقل الخوف من اندلاع حرب جديدة قد تترك تداعيات كارثية على حياته وحياة عائلته، مع تصاعد التوترات في لبنان، وتكرار تهديدات حزب الله بالرد على مقتل شكر.
سليم، وهو أب لطفلين صغيرين، يتحدث بحرقة عن هذه الفترة العصيبة، ويقول لموقع “الحرة” “فكرة أن الحرب قد تندلع في أي لحظة تجعلني غير قادر على النوم أو التفكير في شيء آخر. عندما أرى طفليّ يلعبان في المنزل، لا يسعني إلا التفكير في كيفية حمايتهما إذا تدهورت الأوضاع.”
وتزداد مخاوف سليم حدة عندما يرى طفليه مرعوبين نتيجة خرق الطيران الإسرائيلي لحاجز الصوت فوق بيروت والضاحية الجنوبية حيث يقيم، ويقول “بدأنا نسمع جدار الصوت بعد تهديدات حزب الله بالرد، وعندما يحدث هذا، أرى الرعب في عيونهما. يركضان نحوي ويسألانني إن كنا في خطر. هذا الصوت المرعب، الذي لم يعتادا عليه من قبل، أصبح جزءاً من حياتنا اليومية.”
ويعبّر سليم عن عجزه في تفسير هذا الواقع المرير لطفليه، ويضيف “ماذا يمكنني أن أقول لهما؟ كيف أشرح لطفل في الخامسة وآخر في السادسة ماهية هذه الأصوات؟ في كل مرة يحدث ذلك، أجد نفسي مضطراً للتخفيف من الأمر، لكنني غالباً ما أفشل في ذلك.”
إلى جانب المخاوف النفسية، يعاني سليم من ضغوط مادية تجعل من الصعب عليه اتخاذ تدابير احترازية، ويقول “العديد من معارفي انتقلوا إلى مناطق أكثر أماناً، أو حتى غادروا البلاد. لكنني لا أملك الإمكانيات المالية لذلك. أشعر بأنني محاصر بين الخوف من الحرب وعدم القدرة على حماية أسرتي بشكل كامل.”
وشهد معدل الفقر في لبنان ارتفاعاً بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي (بين عامي 2012 و2022)، ليصل إلى 44% من مجموع السكان، وذلك وفقاً إلى تقرير البنك الدولي الذي صدر في مايو الماضي بعنوان “تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلب على أزمة طال أمدها”.
وفي ختام حديثه، يعبر سليم عن شعور عميق بالعجز واليأس، لكنه يحاول التمسك ببصيص من الأمل، قائلاً “أحاول أن أتفاءل رغم أني أعلم أن الخوف سيبقى رفيقنا ما دام الوضع في لبنان على ما هو عليه.”
وتتبادل إسرائيل وجماعة حزب الله، المصنفة ارهابية، القصف بشكل شبه يومي عبر الحدود منذ الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر على إسرائيل، الذي أدى إلى اندلاع الحرب في قطاع غزة، ومع اغتيال شكر تعززت المخاوف من توسّع رقعة الحرب إلى لبنان والمنطقة.
استنزاف نفسي
وتصف منال، الحالة النفسية المتدهورة التي تعيشها منذ اغتيال شكر، بالقول “الأسبوع الأول بعد مقتله كان صعباً جداً. كنا نعيش حالة طوارئ، نترقب الرد في أي لحظة، وكأن الحرب ستندلع لا محالة. جمّدت جميع نشاطاتي، ومعظم أقاربي ومعارفي غادروا لبنان.”
في الأسبوع الثاني، بدأت منال تشعر بتراجع طفيف في الخوف، خصوصاً بعد تداول الأخبار بشأن وساطات دولية تهدف إلى تجنب رد حزب الله على اغتيال شكر وكذلك رد إيران على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران. لكنها لا تزال تشعر بالقلق العميق، وتقول “في قرارة نفسي أعتقد أن الرد حتمي، كما أشار نصر الله. والهاجس الأكبر أن تستبق إسرائيل هذا الرد وتوجه ضربة إلى لبنان، كما طالب بعض المسؤولين الإسرائيليين.”
يذكر أنه عقب اغتيال شكر، أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ستواصل المساعي الدبلوماسية لتجنب تصعيد الصراع بين إسرائيل وحزب الله في أعقاب الضربة.
وقال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية، فيدانت باتيل، في إفادة صحفية “نواصل العمل نحو التوصل لحل دبلوماسي يسمح للمدنيين الإسرائيليين واللبنانيين بالعودة إلى ديارهم والعيش في سلام وأمن. نريد بالتأكيد تجنب أي نوع من التصعيد”.
منال تصف الوضع بأنه “مرحلة استنزاف نفسي”، إذ تحاول عبثاً استئناف حياتها الطبيعية، وتشرح “حتى عندما أخرج من المنزل، أبقى في حالة حذر دائم، خصوصاً مع الخرق شبه اليومي للطيران الإسرائيلي لحاجز الصوت فوق بيروت حيث أسكن”.
لكن ما زاد من شعورها بالقلق هي المفاجآت غير المتوقعة “بينما نحن نترقب بدء الحرب المحتملة وأن تنهمر الصواريخ علينا من السماء عقب رد حزب الله على اغتيال شكر، صدمنا بأن الضربة أتت من تحتنا ليل أمس الاثنين مع وقوع هزة أرضية في حماة شعر بها سكان بيروت بقوة”.
وتشدد “نعيش كل يوم بيومه، ونحمد الله مع كل يوم يمر دون رد أو حرب. ولا زلت أعتبر أن هناك أملاً بأن تمر هذه المرحلة بسلام، وللأسف، كلبنانيين اعتدنا على مواجهة الأزمات والكوارث بشكل دائم”.
وتصف مديرة جمعية “مفتاح الحياة”، الأخصائية النفسية والاجتماعية، لانا قصقص، الوضع النفسي للبنانيين بأنهم “يعيشون في حالة قلق جماعي وتأهب دائم، تمنعهم من العيش بسلام وإكمال حياتهم بشكل طبيعي”.
وتوضح قصقص في تصريحات لموقع “الحرة” أن هذا التوتر النفسي يعود إلى “عدم اليقين بشأن مستقبل البلاد، مما يخلق حالة مستمرة من عدم الاستقرار النفسي”.
وتشدد على أن “الضغوط النفسية المتزايدة أسهمت في تصاعد مشاعر الغضب لدى المواطنين، مما يساهم في ارتفاع عدد الإشكالات اليومية”، مشيرة إلى أن العديد من اللبنانيين يعانون من “اضطرابات النوم والكوابيس، وسيطرة الأفكار السلبية والمظلمة على حياتهم”.
وتؤكد الأخصائية النفسية أن حالة القلق الجماعية تؤدي إلى ظهور أعراض جسدية لدى البعض، مثل “الآلام الجسدية والشعور بالإرهاق نتيجة الضغط العصبي المستمر”، محذرة من أن “استمرار هذه الحالة لفترة طويلة قد يؤدي إلى استنزاف قدرة الشخص على الصمود نفسياً وجسدياً، وبالتالي يعمق الأزمة النفسية التي يواجهها الشعب اللبناني”.