توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى تسجيل ارتفاع في معدلات “التقزم” أو قصر القامة بالنسبة إلى العمر بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية، بين أطفال لبنان الذين هم دون سن خمس سنوات، بسبب سوء التغذية. واللافت أن الزيادة لم تسجل في الأزمة فحسب، بل بدأت المشكلة تظهر من أعوام ثم تزايدت تدريجاً حتى بلغت أعلى مستوياتها حالياً. في هذه الحالة، يكون الطفل تحت منحنيات النمو التي وضعتها منظمة الصحة العالمية وحددت فيها المقاييس للنمو الطبيعي للطفل بحسب العمر والجنس. يستدعي ذلك حكماً إعادة النظر في مستويات الثقافة الغذائية في البلاد، لاعتبارها سبباً رئيساً في هذه الأرقام التي سجلت، كما تبين. لكن من المؤكد أن الوضع المعيشي الصعب زاد الوضع سوءاً عندما ساهم في تراجع قدرة العائلات على تأمين أطعمة أساسية من مختلف المجموعات الغذائية التي يحتاج إليها الأطفال لنموهم الطبيعي. فهل من الممكن تصحيح هذا الوضع في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة؟
ثقافة غذائية معدومة وأزمة
تناولت دراسة المجلس الوطني للبحوث العلمية سنوات عديدة وصولاً إلى مرحلة الأزمة، وذلك في محافظات بيروت وجبل لبنان. وتبين أنه في السنوات السابقة كانت معدلات “التقزم” مقبولة بالمقارنة مع دول العالم، وتقارب الـ6،4 في المئة، ثم ارتفعت في منتصف الأزمة لتبلغ 8،3 في المئة. لكن الوضع ازداد خطورة فعلاً مع اشتداد الأزمة، حتى بلغت نسبة “التقزم” بين الأطفال 12 في المئة أي ضعف ما كانت عليه سابقاً، وهي المستويات المسجلة في البلدان النامية مثل بنغلاديش، وفق ما توضحه خبيرة علوم الغذاء في المجلس الوطني للبحوث العملية الدكتورة مهى حطيط. “تبين أن الثقافة الغذائية معدومة بين الأهل. فنسبة 46 في المئة منهم لا تعرف كثيراً في مجال الثقافة الغذائية. كما تبين أن نسبة 76 في المئة من المواطنين لا تقرأ لائحة المكونات على المنتجات الغذائية قبل إعطائها للأطفال”.
في الوقت نفسه بدا واضحاً أن تدني القدرة الشرائية للمواطنين كانت السبب الرئيس وراء ارتفاع معدلات “التقزم” بين الأطفال مع تراجع قدرة العائلات على تأمين الغذاء المناسب للنمو. وكانت الدراسة ركزت على الأطفال الذي هم دون سن خمس سنوات. إذ يستدعي نموهم السريع حصولهم على خمسة أو سبعة أنواع من المجموعات الغذائية، بحسب منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية، لتأمين العناصر الغذائية اللازمة للنمو وتجنباً للدخول في حال “الجوع الخفي” أو الجوع الغذائي. فإذا كان طفلاً بعمر سبع سنوات وطوله لا يتخطى طول طفل بعمر خمس سنوات فيما طول الأهل طبيعي، فالمشكلة ليست في الأمعاء أو في حساسية القمح، بل هي حتماً في الغذاء. ودون سن 16 سنة، يمكن دائماً تعويض التأخير في النمو لدى الطفل، بحسب حطيط.
اللافت في الدراسة الاستقصائية التي شملت عائلات في لبنان، أنه في ظل الأزمة تركز النسبة الكبرى على النشويات كالباستا والرز والسكريات. هذا فيما من المفترض أنه يعتمد غذاء الأطفال على أطعمة من مختلف المجموعات الغذائية، وعلى رأسها الأجبان والألبان لتأمين حاجات أجسامهم من الكالسيوم وفيتامين دال، وعلى إثر الدراسة، أوصى المجلس بالحرص على تناول السمك بمعدل مرتين في الشهر واللحوم مرتين في الشهر والدجاج مرة في الأسبوع والباقي يكون من الحبوب، حرصاً على النمو الطبيعي للأطفال. علماً أن ظروف الأزمة الاقتصادية أخذت هنا في الاعتبار، بما أنها قد تمنع العائلات من تأمين اللحوم والأجبان والألبان بمعدلات أعلى للأطفال، بسبب ارتفاع ثمنها.
في تشخيص نقص النمو
تشير طبيبة الغدد الصماء والسكري في مستشفى “أوتيل ديو” لدى الأطفال الدكتورة ليندا محفوظ إلى وجود ثلاثة معايير يمكن الاستناد إليها في تشخيص حال تأخر النمو لدى الطفل. أولها أن يكون الطول الحالي دون مستوى الناقص اثنين من متوسط الانحراف المعياري. أما الثاني فأن يكون نمو الطفل دون مستوى خط ونصف الخط مما هو متوقع بالاستناد إلى الطول الوراثي للطفل، أي الطول المتوقع على أساس العامل الوراثي، فيؤخذ عندها طول الوالدين في الاعتبار. والمعيار الثالث هو أن يخسر الطفل من نموه أو أن تبطئ سرعة النمو ولا تكون منتظمة بالاستناد إلى خط النمو الذي كان مسجلاً.
لسوء التغذية تأثير في النمو حتماً من نواح مختلفة. فنتيجة قلة النشاط الجسدي والجلوس لأوقات طويلة أمام الشاشات من جهة، والإكثار من الأطعمة غير الصحية، زادت معدلات السمنة. هذا ما انعكس بشكل واضح على معدلات البلوغ المبكر لدى الفتيات. ففي مثل هذه الحالة، لغياب المعالجة أثر أكيد في معدل النمو.
ولسوء التغذية أثر في النمو من نواح أخرى. فتناول الأطعمة غير المغذية من جهة وقلة تناول الأطعمة الضرورية للنمو كالحليب ومشتقاته واللحوم مع ارتفاع مستويات الفقر في لبنان، ساهما أيضاً في تراجع معدلات النمو بين الأطفال. هذا في مقابل التركيز على النشويات أيضاً.
إنما إضافة إلى تأثير التغذية في نمو الطفل في الأعوام الأولى، تشير محفوظ إلى عوامل طبية أساسية ترتبط بقصر القامة بالنسبة إلى العمر في لبنان أو في أي بلد في العالم. أول هذه العوامل النقص في إفرازات الغدة النخامية. فنتيجة النقص في هرمون النمو، تتراجع مستويات النمو لدى الطفل. وإذا تبين أن مؤشر هرمون النمو منخفض، يجرى “الفحص التحريضي” للغدة النخامية، ويتطلب الاستشفاء لمدة نصف يوم. وتكون هناك حاجة أحياناً إلى التصوير بالرنين المغناطيسي أيضاً. وقد تحصل هذه المشكلة أيضاً بسبب مقاسات الغدة المتدنية أو بوجود ورم ما يضغط عليها. وفي كثير من الأحيان، لا يظهر التصوير بالرنين المغناطيسي سبباً عضوياً.
ومن الأسباب التي قد تؤدي إلى تأخر نمو الطفل، حال التأخر في النمو في رحم الأم. لكن في معظم الحالات، يعوض الطفل نقص النمو عند الولادة. إنما في نسبة 20 في المئة من الحالات، يعجز عن ذلك. وعندما لا يحصل التعويض بشكل تلقائي، المعالجة ممكنة بهرمون النمو ابتداء من عمر أربع سنوات.
هذا من دون أن ننسى المشكلات المزمنة في الجهاز الهضمي التي تلعب دوراً في نقص النمو عبر خفض قدرة الجسم على امتصاص العناصر الغذائية، ومنها حساسية القمح وداء كرون. وقد يكون السبب في التليف الرئوي والالتهابات المزمنة في الأمعاء والجهاز الهضمي. فأية مشكلة مزمنة يعانيها الطفل قد تؤدي إلى تأخير في نموه، حتى في حال عدم وجود نقص في إفرازات هرمون النمو. على سبيل المثال إذا كان الطفل مصاباً بالربو، وحاله غير مستقرة، ويتبع علاجاً بالكورتيزون، يمكن توقع التأخير في نموه. كذلك في حال إصابته بمشكلات مزمنة في الدم أو في الجهاز الهضمي.
ومن الأسباب التي قد تؤدي إلى نقص النمو أيضاً، تلك المرتبطة بالهرمونات والكسل في الغدة الدرقية، إما بسبب مشكلات من الولادة أو هي مشكلات تتعلق بالمناعة الذاتية. فأي خلل في وظيفة الغدة الدرقية ينعكس على النمو بشكل واضح ويؤثر سلباً في سرعة النمو. كما تبرز الحاجة إلى التنبه إلى متلازمة تورنر لدى الفتيات. فقد يلاحظ أن طول الفتاة في سن معينة، ينقص بمعدل 20 سنتمتراً عما يجب أن يكون عليه. فيجب التفكير بهذه المتلازمة لدى كل فتاة تعاني تاخيراً في النمو ولم يظهر سبب واضح له.
لكل مشكلة علاج
أياً كان السبب وراء نقص النمو لدى الطفل، تشدد محفوظ على أهمية نشر الوعي حول التشخيص المبكر لقصر القامة بالنسبة إلى العمر للمعالجة الفاعلة. فيجرى فحص دم شامل، وأيضاً فحص حساسية القمح في حال وجود أعراض ترتبط بالجهاز الهضمي كالنفخة أو نقص الوزن. وعندها يمكن أن يستعيد الطفل معدل النمو الطبيعي طالما أن الأسباب تعالج بالشكل الصحيح وفي الوقت المناسب.
فبشكل عام، معظم المشكلات التي تؤدي إلى التأخير في النمو لها حل، سواء كانت مرتبطة بأسباب عضوية أو مشكلات صحية أو كانت ناتجة من سوء التغذية. فكلها مشكلات قابلة للمعالجة، خصوصاً في حال التشخيص المبكر. وصحيح أنه ما من عمر محدد لذلك، إنما بقدر ما يلاحظ الأهل وجود مشكلة وتشخص في مرحلة مبكرة أكثر، يكون العلاج أكثر فاعلية. ويلعب طبيب الأطفال دوراً مهماً هنا لاعتباره قد يتنبه إلى مشكلة من هذا النوع خلال الزيارات الدورية. إنما المشكلة هنا هي أن العلاج البديل الذي يوصف في حالات معينة لمعالجة مشكلة نقص النمو، لم يعد متاحاً للكل. فبعد أن كان مقطوعاً أصبح متوافراً بأسعار مرتفعة جداً ليست في متناول الجميع وهو تحد جديد عند وجود مشكلة من هذا النوع.