منذ حرب غزة اندلعت التوترات بين إسرائيل و”حزب الله”، لكن سقوط صاروخ على بلدة مجدل شمس في الجولان هو التطور الذي رافقه تصعيد في المنطقة بين إسرائيل وما يسمى “محور المقاومة” في آن واحد، فقد اتهمت تل أبيب “حزب الله” بإطلاق الصاروخ وأنكر الأخير، واعتبر أن الانفجار في مجدل شمس نتيجة لأنظمة الدفاع الإسرائيلية.
في هذا السياق نفذت إسرائيل عملية اغتيال لأهم القادة العسكريين في “حزب الله” هو فؤاد شكر، وفي اليوم التالي كانت عملية الاغتيال الأخرى التي طاولت رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية الذي كان يحضر مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان في طهران.
اللافت للانتباه هو حينما وقعت حادثة مجدل شمس وهددت إسرائيل بتنفيذ هجوم واسع على لبنان ومواقع “حزب الله”، إذ أعطى مجلس الحرب الإسرائيلي الصلاحيات الكاملة لوزير الحرب ورئيس أركان الجيش للقيام بعمليات انتقامية. وفي خضم هذا رأى كثيرون أن المنطقة بصدد حرب إقليمية شاملة، معتبرين أن “حزب الله” في لبنان سيردّ بجدية على أي مغامرة ضد لبنان وأن مجدل شمس الشرارة التي حذر منها عدد من المحللين لتفجير حرب واسعة النطاق، ثم تلت هذه الحادثة عمليتا الاغتيال الكبيرتان اللتان نفذتهما إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي طهران، وهنا لا بد من الإشارة إلى دلالات ورسائل ما حدث.
بتنفيذ عمليتي اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية على التوالي، تكون إسرائيل صعدت في مواجهة ثلاث جبهات هي “حزب الله” وإيران و”حماس”.
والتساؤل الرئيس، لماذا اختارت تل أبيب طهران واليوم التالي لتنصيب الرئيس الإيراني الجديد، فكان بإمكانها أن تغتاله في أي مكان آخر، لكن يبدو أن إسرائيل تريد ضمن الأهداف أن توجه رسائلها إلى قائدَي ما يسمى “محور المقاومة” وهما “حزب الله” وقلب طهران.
فمن جهة، ربما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إطالة أمد الحرب تجنباً لإنهائها ومن ثم بدء مقاضاته في قضايا تنتظره، لذلك فإن تعثر مفاوضات التوصل إلى هدنة ووقف إطلاق النار سيسمح له باستمرار الحرب، كما يمكنه التسويق للداخل الإسرائيلي بأنه انتقم من قادة “حماس” الذين نفذوا هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكن رسائل إسرائيل ليست فلسطينية فحسب أو إلى الداخل الإسرائيلي فقط، إذ إن الدلالات الأكبر منها موجهة إلى إيران.
فقد كانت البيانات الدقيقة الخاصة بمكان وجود إسماعيل هنية وهو في ضيافة الحرس الثوري وحراسته وتأمينه، ثم تعرضه للاغتيال في قلب طهران يعكسان اختراق المنظومة الأمنية الإيرانية وفشلاً استخباراتياً للحرس الثوري وأجهزة الأمن، بما يعني وجود متعاونين مع إسرائيل في الداخل الإيراني وفي مواقع تمكنهم من الوصول إلى المعلومات الدقيقة.
يُذكر أن تلك لم تكُن الحادثة الأولى للتراخي الأمني والاستخباراتي الإيراني في مواجهة إسرائيل، فيمكن القول إن طهران فشلت تماماً في الحرب الاستخباراتية بينها وتل أبيب، فسبق ذلك اغتيال محسن فخري زادة العالم النووي الإيراني، فضلاً عن تنفيذ عمليات تخريب داخل البلاد بعبوات ناسفة وتفجيرية.
من جهة أخرى، عملت إسرائيل على زعزعة صورة إيران أمام حلفائها الإقليميين من الجماعات المسلحة، فالرسالة الواضحة أن لا أحد في مأمن حتى داخل طهران، ومن ثم يمكن لأي من المحسوبين على “محور المقاومة” أن يكون هدفاً سهل الوصول إليه داخل طهران.
وتحاول إسرائيل كذلك إفساد الفرصة على الحكومة الإيرانية الجديدة التي تحدث رئيسها بزشكيان عن رغبته في التقرب من الغرب ومن ثم كيف يمكن لتلك الحكومة البدء بفتح قنوات دبلوماسية بعد اغتيال هنية على أراضي إيران، فحتماً سيواجه ذلك برفض وانتقاد من المعسكر المتشدد.
من ناحية أهم، فإن إسرائيل وضعت إيران في موضع يدفعها إلى ضرورات الرد المضاد على اغتيال هنية، إذ إنه اغتيل داخل أراضيها وهو ضيف رسمي لديها، لذا عليها الرد، لكن يبدو أن هذا العمل الأخير لإسرائيل سيكون كاشفاً للموقف الإيراني. فوفقاً للحسابات الإيرانية البراغماتية، لماذا تتخلى عن حذرها في الانجرار إلى حرب مع إسرائيل ربما تدفع واشنطن إلى الوقوف ضد طهران، في وقت تجري محادثات غير مباشرة بينهما، كما أن إيران في مراحل متقدمة من تطوير برنامجها النووي، بالتالي لا تريد استفزاز المجتمع الدولي، فضلاً عن أنها لن تتدخل من أجل قائد “حماس” التي قامت بـ”طوفان الأقصى” وتبرأت منها إيران وقال “حزب الله” حينها إنه لن يحارب من أجل الحركة.
ومن ثم فإن الخيارات المتاحة أمام إيران قليلة، لكن ستكون الشعارات أكثر والتي ستدفعها إلى إشراك ما يسمى “محور المقاومة” في عمل انتقامي ستروّج له في ما بعد بأنه الرد الإيراني ضد إسرائيل، لا سيما أن هنية كان قائداً لـ”حماس” التي هي ضمن “محور المقاومة”، ومن ثم ستدفع بمبدأ “وحدة الساحات” في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن، حيث تستمر توترات البحر الأحمر.
لكن هل سينتقل “حزب الله” إلى التصعيد، رداً على اغتيال أكبر قادته، الإجابة لا، لكنه سيظل عند مستويات المواجهة نفسها التي اعتادها أمام إسرائيل من دون الانجرار إلى حرب أوسع.
أخيراً، يتضح التكتيك الإيراني والإسرائيلي وبينهما “حزب الله” في توظيف توترات الإقليم للتصعيد، ثم تجنب كل منهما المواجهة الشاملة التي ستجر الخسارة إليهما، لكن عوضاً عن ذلك تستمر المنطقة على حافة حرب لا هي وشيكة ولا هي محالة وتدفع ثمنها الشعوب.