في منطقة لا توجد فيها دولة واحدة، بما في ذلك “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، تريد خوض حرب بتوقيت تفرضه “حماس”، لا يمكن إلى يومنا هذا سوى الخروج بخلاصة واحدة. الرابح من حرب غزّة ستكون إيران. ستربح الحرب من دون خوضها ومن دون خسارة جندي واحد. تماما كما حصل في العام 2003 عندما شنت الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن حربا على العراق بغية التخلّص من نظام صدّام حسين غير المأسوف عليه.
تملّصت إيران من حرب غزّة بطريقة لبقة منذ اللحظة الأولى لاندلاعها. فعلت ذلك عن طريق التبرع بالقول، عبر مسؤولين فيها وقياديين في ميليشيات تابعة لها، أنّه لم يكن لديها علم بتوقيت الهجوم الدموي الذي شنته “حماس” في منطقة غلاف غزّة يوم السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي تحت شعار “طوفان الأقصى”. تلت ذلك سلسلة تسريبات في وسائل إعلام مهمّة تكشف الأسباب التي دفعت إيران ولا تزال تدفعها إلى الاكتفاء بدور مساند لـ“حماس” في الحرب الوجودية التي تخوضها.
بعد مرور ما يزيد عن خمسة أسابيع على حرب غزّة، يبدو مفيدا إيراد ملاحظات معيّنة. بين هذه الملاحظات، بل في طليعتها، أنّه لا يمكن لـ“حماس” شنّ مثل هذا الهجوم على إسرائيل من خلف ظهر إيران (أو إحدى أدواتها في المنطقة)، في ضوء العلاقة العضوية التي تربط بين الجانبين.
قد لا تكون “الجمهوريّة الإسلاميّة” مطلعة على التوقيت الدقيق لـ“طوفان الأقصى”، لكنّه يصعب تصوّر هجوم من هذا النوع من دون حسابات لـ“حماس” تأخذ في الاعتبار لخطة متفق عليها مسبقا مع الأدوات الإيرانية في المنطقة. تقضي الخطة بفتح جبهات أخرى مساندة فعلا، وليس صوريا، لـ“حماس” مع بدء “طوفان الأقصى”. يُفترض فتح في مثل هذه الجبهات بعيدا عن التزام لعبة احترام قواعد الاشتباك المتفق عليها مع إسرائيل إن في جنوب لبنان أو في جنوب سوريا، على سبيل المثال. هذا لا يعني من دون أدنى شكّ دعوة إلى “حزب الله” إلى فتح جبهة جنوب لبنان. مثل هذا التطوّر سيجرّ كارثة على البلد ويدمّر مناطق وأحياء بكاملها على غرار ما حصل وما زال يحصل في قطاع غزّة.
كان لافتا صدور كلّ تلك الإشارات الإيرانية التي تصبّ كلّها في اتجاه واحد فحواه أن لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” حسابات خاصة بها على الصعيد الإقليمي والدولي. تتفق هذه الحسابات مع حسابات “حماس” وتختلف معها جذريا في الوقت ذاته. تتفق مع حسابات “حماس” في ما يخص توجيه ضربة قويّة لإسرائيل يصعب عليها القيام منها يوما بغض النظر عن إصرارها على محو غزّة من الوجود، فضلا عن تشريد أهلها. انتقمت “حماس” لإيران بشكل لا يمكن تصوّره. انتقمت من كلّ عمليّة اغتيال أو قصف في الداخل الإيراني وحتّى من الدور الإسرائيلي، إلى جانب الأميركي، في اغتيال قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” قاسم سليماني بعيد مغادرته مطار بغداد مطلع العام 2020. ما لا بدّ من التوقف عنده، إنه بعد حرب غزّة، لم يعد من وجود لتهديدات إسرائيلية لإيران وبرنامجها النووي. صارت هموم إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو محصورة بغزّة وكيفية إزالتها من الوجود وليس في ما تعدّه إيران على الصعيد النووي… أو في مجال تطوير الصواريخ الباليستيّة.
ما الذي يحدث الآن؟ إذا وضعنا جانبا الضربة التي لا سابق لها التي تلقّتها إسرائيل والانتصار الكبير الذي حقّقته “حماس”، وهو انتصار لا سابق له منذ قيام تلك الدولة في العام 1948، يصعب تجاهل الحسابات الخاصة بـ“الجمهوريّة الإسلاميّة” التي تبيّن أنّ تركيزها الأوّل والأخير على توظيف حرب غزّة بما يخدم مصالحها. استطاعت إيران إثبات أنّ ثمّة فاعليّة كبيرة لأدواتها في المنطقة. تستطيع توسيع حرب غزّة بكبسة زرّ. يكفي إعطاء ضوء أخضر لـ“حزب الله” كي تنتقل المعركة الكبرى من غزّة إلى الجليل وجنوب لبنان. الأهمّ من ذلك كلّه استغلال “الجمهوريّة الإسلاميّة” لحرب غزّة من أجل استكمال الانقلاب الذي نفّذته في العراق. يعطي فكرة عن حجم هذا الانقلاب تحوّل “الحشد الشعبي”، الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات العراقيّة التابعة لـ“الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى ما يشبه “الحرس الثوري” في إيران. بات “الحشد الشعبي” شريكا في الاقتصاد العراقي. أكثر من ذلك، لم يعد يخفي أنّه الدولة العراقية… وأنّه ينفّذ المطلوب منه إيرانيا، بما في ذلك حشد قوات عند نقطة طريبيل على الحدود مع الأردن “نصرة لفلسطين”!
لم يعد مستبعدا تتويج الانتصار الإيراني في حرب غزّة، التي لا بدّ من الاعتراف بأنّها أعادت حل الدولتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطين إلى الواجهة، بصفقة إيرانيّة – أميركيّة. لن يكون ممكنا، في ضوء ما حلّ بغزّة وأهلها من دمار، ترجمة الحرب الدائرة حاليا إلى انتصار سياسي لـ“حماس” التي لم تمتلك يوما برنامجا سياسيا واضحا باستثناء الشعارات الكبيرة من نوع “فلسطين من البحر إلى النهر”. لن يقبل المجتمع الدولي، خصوصا الأميركي والأوروبي بإعادة تأهيل الحركة على الرغم من صعوبة القضاء على فكر الإخوان المسلمين الذي لا يزال حيّا يرزق في كلّ أنحاء المنطقة بغض النظر عن عمق تخلّفه.
من الآن، بدأت إدارة جو بايدن تساير “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. بدأت المسايرة عندما أصرّ مسؤولون أميركيون على أنّ لا دليل على علاقة لإيران بـ“طوفان الأقصى”. ترافق ذلك مع اتخاذ إجراءات ستسمح لإيران بالحصول على عشرة مليارات دولار هي “مستحقات لدى العراق”.
هل هي سذاجة أميركيّة أم دهاء إيراني… أم كل ما في الأمر أن حسابات “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا تتطابق مع حسابات “حماس” التي لم تفكّر في ما سيحلّ بغزّة في اليوم التالي لـ“طوفان الأقصى”؟