وسط الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة وافق البرلمان اللبناني على إصلاح كبير لنظام التقاعد في البلاد، لكن من المرجح أن يواجه تطبيقه تحديات تتعلق بالفوائد والسيولة والتغطية.
وجاء في تقرير نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام أن إقرار قانون التقاعد رقم 319 من قبل البرلمان اللبناني في ديسمبر 2023 علامة فارقة. ولعقود من الزمن عاشت الغالبية العظمى من الشعب اللبناني بالقليل من أمن الدخل أو هو معدوم في فترة الشيخوخة، وهو الوضع الذي تفاقم منذ الأزمة الاقتصادية والمالية التي بدأت في عام 2019.
ونحو 80 في المئة من اللبنانيين ليس لديهم معاش تقاعدي رسمي، ما يجبر كبار السن على الاعتماد على الأسرة أو أنواع أخرى من الدعم غير الرسمي. وتخلق التغيرات الديمغرافية السريعة -الناتجة عن انخفاض معدلات الخصوبة، ومتوسط العمر المتوقع الأطول، وارتفاع معدلات هجرة السكان في سن العمل- تحديات خطيرة للبلاد التي أصبحت أحد أسرع المجتمعات شيخوخة في المنطقة.
وحتى العمال المحظوظون القلائل في القطاع الخاص الرسمي والمسجلون في مؤسسة الضمان الاجتماعي في البلاد يحصلون عند التقاعد على مبلغ مقطوع كتعويض نهاية الخدمة. والمبلغ غير كافٍ للعيش حياة كريمة في سن الشيخوخة: في المتوسط، مع خمسة وأربعين عامًا من العمل، يعادل المبلغ المقطوع راتب ثلاث سنوات. وفي عام 2023، كان لبنان إحدى دولتين في المنطقة العربية ليس لديهما نظام معاشات تقاعدية للغالبية العظمى من العاملين.
ومنذ عام 2019 يشهد لبنان أشد أزمة اجتماعية واقتصادية ومالية في تاريخه. وأدت الأزمة إلى إضعاف قدرة الدولة على حماية السكان، حيث أدى انهيار المالية العامة إلى انخفاض تمويل البرامج الاجتماعية، بما في ذلك الصحة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعي ومعاشات التقاعد العامة.
الفوائد وإعادة التوزيع
يحل قانون التقاعد الجديد محل نظام تعويض نهاية الخدمة الحالي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذي أنشئ عام 1963 وتم تصوره على أنه مؤقت. ويقدم نظام التقاعد المحدد الذي تم تقديمه في القانون 319 دفعة شهرية خلال حياة المتقاعد عبر نظام التقاعد ذي المساهمة غير المالية. وهذا يعني أنه نظام معاشات عام يساهم فيه الأفراد في سن العمل ويدفعون فوائد المتقاعدين الحاليين، كما هو الحال في نظام معاشات التقاعد الكلاسيكي الذي يدفع أولاً بأول.
ولكن معاش التقاعد يتم حسابه على أساس قيمة المساهمات (بالإضافة إلى الفوائد) المتراكمة في الحسابات “الافتراضية” للأفراد -وهي حسابات افتراضية لأنها موجودة لأغراض محاسبية فقط ولا تحتوي على أموال حقيقية- ومتوسط العمر المتوقع عند التقاعد. كما يعيد القانون الجديد هيكلة الإطار الإداري والتشغيلي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وإذا تم تصميم المساهمات المحددة وطنيا بشكل جيد، فيمكن القول إنها واحدة من أفضل الأنظمة لتحقيق التوازن بين القضايا المتعلقة بحوافز العمل، وإعادة التوزيع، والاستدامة المالية، وإدارة المخاطر المالية. ولم تتمكن سوى دول قليلة من تقديم هذا النوع من الإصلاح، لذلك فإن أولئك الذين حققوا ذلك في لبنان يستحقون الثناء.
ومع ذلك لا يوجد إصلاح مثالي لمعاشات التقاعد، وهناك مشاكل محتملة في تصميم نظام التقاعد الجديد في لبنان فيما يتعلق بكفاية المزايا وترتيبات إعادة التوزيع، وتوزيع المخاطر المالية، والتأثير على سوق العمل، والترتيبات الانتقالية. ومع انتقال صناع السياسات إلى مرحلة تنفيذ الإصلاح المخطط له، من المهم أن يأخذوا في الاعتبار هذه المشاكل ويعالجوها، وبالتالي ضمان عدم تفويت لبنان فرصة ذهبية لتوفير الحماية الاجتماعية الكافية لسكانه.
يمكن لنظام التقاعد العام أن يهدف إلى استبدال 50 في المئة من دخل ما قبل التقاعد للعامل العادي، وأكثر للعمال ذوي الدخل المنخفض، وأقل للعاملين ذوي الدخل المرتفع. والأساس المنطقي وراء ذلك هو أنه بحلول الوقت الذي يتقاعد فيه العمال لن تعود هناك حاجة إلى العديد من النفقات التي تشكل جزءا من الحياة النشطة؛ الرهن العقاري، والتعليم وغير ذلك من النفقات للأطفال، والملابس والنقل المرتبطة بالعمل.
وبافتراض توفير التغطية الصحية بعد التقاعد، يستطيع العامل ذو الدخل المتوسط أن يحافظ على مستويات معيشية بمعاش تقاعدي يعادل 70 في المئة من دخله قبل التقاعد، مع 50 في المئة من نظام التقاعد العام و20 في المئة من المدخرات الخاصة. وفي نظام التقاعد الجديد في لبنان يمكن أن يتراوح المعاش التقاعدي الذي يأتي من مساهمات المتقاعدين الخاصة بين 20 و40 في المئة، اعتماداً على عدد السنوات التي قضوها في النظام ومعدل نمو الأجور.
ويتم احتساب هذا المعاش بقسمة المدخرات المتراكمة في الحساب الفردي الافتراضي (المساهمات بالإضافة إلى الفوائد التي تساوي معدل نمو متوسط أجر أعضاء الخطة) على ما يسمى بعامل القسط السنوي الذي يساوي، بشكل أو بآخر، متوسط العمر المتوقع عند سن التقاعد، مثلاً 16.4 سنة للذكر الذي يبلغ من العمر أربعة وستين عاماً.
لكن النظام الجديد يقدم أيضًا ضمانتين في شكل حد أدنى للمعاشات التقاعدية وحد أدنى لمعدل الإحلال، يعملان معًا على زيادة معدلات الإحلال إلى نطاق يتراوح بين 30 و80 في المئة، اعتمادًا على الدخل وفترات الاستحقاق. وتعد ترتيبات إعادة التوزيع داخل نظام المعاشات التقاعدية أساسية لضمان حصول جميع العمال على معاش تقاعدي مناسب أثناء الشيخوخة، لاسيما إذا كانوا يقضون جزءًا من حياتهم النشطة في القطاع غير الرسمي وكانت كثافة اشتراكاتهم منخفضة. ومع ذلك لا بد من تصميم هذه الترتيبات بعناية لضمان أنها تقدمية ولا تقلل حوافز العمل والادخار.
كما هو الحال مع أي مؤسسة مالية أخرى، فإن ملاءة نظام التقاعد تتطلب، في جميع الأوقات، أن تكون الالتزامات مساوية للأصول. وتشمل الالتزامات الرئيسية كلا من المعاشات التقاعدية المدفوعة، والتي سيستمر الصندوق في إضافتها إلى أن يموت جميع المتقاعدين، وحقوق التقاعد المتراكمة للأعضاء العاملين، والتي تعتمد على الاشتراكات السابقة.
ومن ناحية أخرى يعتمد هيكل الأصول على نوع النظام. في الأنظمة الممولة بالكامل تشمل الأصولُ الأصولَ المالية مثل الودائع أو الأسهم أو السندات، بالإضافة إلى الأصول الحقيقية مثل المباني. وفي نظام المساهمات المحددة وطنيا الجديد في لبنان، هناك أصل ثالث -أقل شهرة- يسمى أصول الدفع أولا بأول. وبغض النظر عن الجوانب الفنية، فإن هذا الأصل يشبه الاستثمار في نوع من السندات الحكومية التي تدفع حصة من المساهمات المستقبلية. ولا يشير القانون الجديد إلى هذه الأصول، لكنه يشكل عاملاً حاسماً في تحديد ملاءة النظام الجديد.
والواقع أن سعر الفائدة الذي يستطيع النظام الجديد أن يدفعه على المساهمات التي تتراكم في الحسابات الفردية الافتراضية لا بد أن يكون مرتبطاً بمعدلات نمو الأصول المالية وأصول الدفع أولاً بأول في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وبدلا من ذلك، فإن سعر الفائدة الذي يحدده القانون الجديد يساوي معدل نمو متوسط الأجر المغطى. وقد يكون هذا تقديرا تقريبيا جيدا لمعدل العائد المستدام على المساهمات، ولكنه يظل يتطلب وجود آلية لاستعادة الملاءة عندما تتجاوز الالتزامات الأصول.
وفي هذه المرحلة، فإن قيمة أصول والتزامات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير واضحة لأن التقارير الاكتوارية والوثائق التحليلية الأخرى التي استرشد بها القانون لم يتم نشرها على الملأ. ومن غير الواضح أيضًا ما هي تكاليف ضمانات الحد الأدنى للمعاشات التقاعدية والحد الأدنى لمعدل الاستبدال. ويثير هذا الافتقار إلى الشفافية مخاوف بشأن مصداقية الإصلاح وقد يزيد من عدم ثقة المواطنين اللبنانيين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
الانتقال إلى نظام جديد
وهناك سؤال آخر مهم كثيراً ما يتم التغاضي عنه في إصلاح معاشات التقاعد، وهو كيفية توزيع المخاطر المالية بين الحكومة وأصحاب العمل والعمال والمتقاعدين؛ ماذا يحدث عندما تتقلص أصول نظام التقاعد فجأة وبشدة، بسبب أزمة مثل جائحة كورونا أو الانهيار المالي، وتنخفض إلى ما دون الالتزامات؟ في نظام المساهمة المحددة الممول بالكامل، تكون الإجابة واضحة: العمال يتحملون المخاطر.
وإذا انخفضت قيمة أصول صندوق التقاعد، فهذا يعني أن المدخرات التي يمتلكها العاملون في حساباتهم الفردية تنخفض أيضًا بنفس المبلغ، وبالتالي الحفاظ على الملاءة المالية. ولكن هذه نتيجة مؤسفة بالنسبة إلى العمال، وخاصة أولئك الذين اقتربوا من التقاعد.
تم تصميم أنظمة التقاعد وغيرها من برامج التأمين الاجتماعي في الأصل على أساس فكرة مفادها أنه مع تطور الاقتصادات سينتهي الأمر بأغلب العمال في نهاية المطاف كموظفين بأجر في شركات رسمية متوسطة أو كبيرة.
وهذا لم يحدث ومن غير المرجح أن يحدث في أي وقت قريب، وخاصة في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل. ولا يقتصر الأمر على أن العديد من الموظفين بأجر يعملون في شركات صغيرة ومنخفضة الإنتاجية وغير رسمية، ولكن أيضًا ما بين 20 إلى 40 في المئة من العمال يعملون لحسابهم الخاص. ويعمل بعض هؤلاء في مهن حرة، والبعض الآخر من أصحاب العمل، ولكن الأغلبية من المزارعين أو العاملين لحسابهم الخاص الذين يديرون المشاريع المنزلية.
وينبغي دمج نظام التقاعد المصمم بشكل جيد في أسواق العمل المحلية، وأن يكون قادرا على تغطية جميع العمال، بغض النظر عن نوع الوظيفة أو القطاع الاقتصادي، بما في ذلك القطاع غير الرسمي، الذي يوظف في لبنان غالبية القوى العاملة.
وهناك بضعة شروط لكي يعمل نظام التقاعد بهذه الطريقة: فلا بد أن يكون هناك رابط واضح بين الاشتراكات والفوائد حتى لا يؤدي الوافدون الجدد إلى المساس بملاءة النظام، ويجب أن تكون هناك ترتيبات لإعادة التوزيع من أجل مساعدة أولئك الذين لا يستطيعون المساهمة أو توفير ما يكفي، ويجب أن توفر ترتيبات إعادة التوزيع هذه حوافز للتسجيل والمساهمة، على عكس زيادة المعاشات التقاعدية؛ ولا ينبغي تمويل إعادة التوزيع عن طريق الضرائب المفروضة على العمل، وهو ما قد يؤدي إلى تقليص حصة العمل الرسمي.
ولا يوجد أي من هذه الشروط في النظام الجديد في لبنان. وبالإضافة إلى ذلك لم يتطرق القانون الجديد إلى نظام التقاعد في القطاع العام (سواء موظفو الخدمة المدنية أو أفراد القوات المسلحة)، والذي يحتاج في حد ذاته إلى الإصلاح. ومن الناحية المثالية كان القانون الجديد ليتضمن أحكاماً لنظام التقاعد الوطني الذي يدمج النظامين العام والخاص ويعامل كل العمال على حد السواء.
ويشكل التوصل إلى الترتيبات الانتقالية الصحيحة جزءا مهما للغاية من حزمة الإصلاحات التي تدخل تغييرات هيكلية على نظام التقاعد. والمفتاح هنا هو ضمان أن النظام الجديد يبدأ بميزانية عمومية نظيفة، حيث تتساوى الأصول مع الالتزامات. وهذا يعني ضمنا حساب أي التزامات غير ممولة قائمة قبل الإصلاح والتأكد من تمويلها من خلال سندات حكومية مخصصة.