لقد شهدت السنوات الماضية، وحتى اليوم، سجالاتٍ غير مجدية، وتبادلَ اتهامات، وتقاذفاً للمسؤوليات بين المصارف ومصرف لبنان والسلطة السياسية. وفيما يرى بعضهم أن السلطة السياسية، هي مَن أسس لهدر مليارات الدولارات، يرى بعضهم الآخر أن المصارف هي من أساءت إدارةَ أموال المودعين. وفي الوقت نفسه تبرز خطورة مسؤولية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة الذي شكّل العقلَ المدبر لهذه الحالة، وإدارتها بشكل مخالف للقوانين، وخاصة قانون النقد والتسليف الذي حدد مهمة البنك المركزي فيما يتعلق بتطبيق سياسة نقدية تحافظ على قيمة النقد، وتسهر على سلامة عمل القطاع المصرفي، كونه «القاطرة» الرئيسة لمسيرة الاقتصاد الوطني. والأخطر من ذلك أن الحلول المطروحة، تواجه علاقة تشاركية تضامنية بين السياسيين والمصرفيين، تعود إلى عقود من الزمن، وقد شكّلت التغطيةُ المطلوبة للأزمة.
وتهدف تلك العلاقة المستمرة حتى اليوم، إلى إبراء ذمة المنظومتين السياسية والمصرفية من المسؤولية، خصوصاً أن الشراكة الوثيقة بين القطاع المصرفي والسلطة السياسية، لا تقتصر على المساهمات والتعاون، بل ترقى إلى مستوى الشراكات الحقيقية، وعلاقات النسب، وتأسيس الأعمال المشتركة داخل البلد وخارجه. وتحكم هذه العلاقة تقاطع المصالح من خلال رسم خريطة ملكية وإدارة كل مصرف. لذا يلاحظ أن هناك 18 من كبار المصارف تعود ملكيتها لساسة سابقين أو حاليين، أو لشخصيات منتمية إلى عائلات سياسية. لا شك في أن الحسابات التي تُحدث إشكالية هي الودائع المقيدة لدى المصارف والبالغة 87.9 مليار دولار. وتقابلها ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والبالغة 81.1 مليار دولار. لذا لا تستطيع المصارف سدادَ ودائع العملاء، لأن مصرف لبنان «متعثر» في الدفع، حيث يعاني «فجوة مالية» قدرها 73.1 مليار دولار، ناجمة بالدرجة الأولى عن تبديد احتياطاته من الدولار الأميركي على أسعار الصرف وسياسات الدعم، إضافة للسياسات المالية غير المستدامة.
ومع الأخذ بالاعتبار أن خسائر مصرف لبنان (وفق قانون النقد والتسليف) تقع جميعُها على عاتق الحكومة، وتجب تغطيتها من موازناتها السنوية، فإن البحث الحكومي مع عدد من الخبراء يتناول إمكانيةَ شطب «الفجوة المالية»، من خلال استبدال ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بصافي السيولة الأجنبية لديه (باستثناء احتياطي الذهب) والمقدرة بنحو 8 مليارات دولار. ويمكن استخدام هذا المبلغ لتلبية ودائع المصارف، وتمكينها من دفع الودائع التي تصل 100 ألف دولار، والتي تمثل نحو 82 في المئة من حسابات المودعين.
مع العلم بأن 22 مصرفاً من أصل 47، أعلنت صراحة عدم قدرتها على الدفع، لما تعانيه من «أزمة سيولة»، لكن يبدو أن المشكلة الأخطر تكمن في عدم معرفة الأوضاع الحقيقية للمصارف من دون إنجاز التدقيق الشامل لميزانياتها، لاسيما أن بعضها «متعثر» وبعضها الآخر على طريق «الإفلاس». وهذا مع الإشارة إلى أن توجيه تُهم الإفلاس، يرفع منسوب التهويل على المودعين، بأرجحية ضياع أموالهم، عندما يعلن المصرف إفلاسه.