وما يزيد في احتمالات الانتظار الثقيل إلى ما بعد أيلول/سبتمبر هو فشل الرهان على الاتفاق السعودي الايراني الذي اعتقد بعضهم ولاسيما في فريق الممانعة أنه سيُحدث تغييرات إيجابية لمصلحة مرشحه رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، وأن السعودية التي انفتحت على رئيس النظام السوري بشار الأسد لن تقفل الباب أمام وصول فرنجية، وأنها ستقايض طلبها الهدوء في اليمن بغض الطرف عن تمدد محور الممانعة في لبنان وسوريا والعراق وترك لبنان أسيراً بيد حزب الله، وتمّت المبالغة حينها في التعويل على الموقف السعودي وعلى تصرفه بحيادية حيال المرشحين للرئاسة وعدم إعطاء السفير السعودي وليد البخاري أي اشارة للنواب السنّة الذين يدورون في فلك المملكة تجاه المرشح سليمان فرنجية أو المرشح جهاد أزعور.
المبادرة الفرنسية
ومع انطلاق العد العكسي لعودة لودريان يبدو فريق الثنائي الشيعي وحلفاؤه صفر اليدين، فباريس تراجعت عن اندفاعتها نحو تسوية تحمل فرنجية إلى قصر بعبدا ورئيساً للحكومة قريباً من القوى السيادية إلى السراي، واللجنة الخماسية التي اجتمعت في قطر أصدرت بياناً تضمّن تلويحاً بالعقوبات ضد الذين يعرقلون إحراز تقدم في موضوع انتخاب رئيس جديد للبلاد، وقرأ فيه الفريق الممانع تصعيداً ونعياً للمبادرة الفرنسية ودفعاً لحزب الله إلى التشدد.
وهكذا يتبيّن أن فرنسا لم تستطع تسويق تصورها للتسوية في خلال الاجتماع الخماسي، لا بل فوجئ البعض بصلابة موقف الرياض والذي استتُبع قبل أيام بتحذيرات صدرت عن دول مجلس التعاون الخليجي لرعاياها بوجوب المغادرة أو أخذ الحيطة والحذر، وهذه رسالة سياسية أبعد من كونها تخوفاً من أحداث أمنية بقيت محصورة في مخيم عين الحلوة كما أبلغ أحد القياديين اللبنانيين «القدس العربي» والذي اعتبر «أن الدول الخليجية عادت لتنظر إلى لبنان على أنه تحت سطوة حزب الله، وجاءت حادثة الكحالة لتثبت كيف أن حزب الله يتنقّل بشاحنات الأسلحة والذخائر داخل القرى وعلى الطرقات العامة غير آبه بالدولة اللبنانية ولا بقواها الأمنية وكيف يمارس الترويع للأهالي الآمنين في بيوتهم وبلداتهم».
استهداف بري
هذه المستجدات وفي هذا التوقيت بالذات عاكست مَن كان يراهن على «حوار أيلول» لتعبيد الطريق أمام الانفراج الرئاسي، وأكثر من ذلك جاءت الإشارات الأمريكية غير المسبوقة تجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري والمطالبة بفرض عقوبات عليه باعتباره «امتداداً لحزب الله» لتشوّش على مسعى لودريان ولتركز على الدور السلبي لرئيس المجلس في إدارة الجلسات الانتخابية والسماح بتطيير النصاب في الدورة الثانية من قبل نواب كتلته. ومثل هذا الاتهام للرئيس بري لا يخدم الأجواء الحوارية ولا يستعجل اختراقاً في الجدار الرئاسي لأنه قد يستدعي تصلباً أكبر من جانب الرئيس بري الذي قال «البرّي ما بيحلاش عالرص» فيما حزب الله ألمح إلى أن الشغور الرئاسي قد يمتد إلى السنة الجديدة عندما تحدث رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد عن احتمال الفراغ في موقع قيادة الجيش، ما يعكس الكباش الدائر حول رئاسة الجمهورية وعدم رغبة حزب الله بالتخلّي عن ورقة فرنجية والانتقال إلى مرشح توافقي مهما بلغت المخاطر المحدقة بالبلد أمنياً ومالياً.
ولعلّ عودة حزب الله إلى خطابه المتصلب لم يأت فقط رداً على اللجنة الخماسية وعلى تراجع باريس عن مبادرتها، بل يأتي من الرهان على عودة الحوار الثنائي بينه وبين التيار الوطني الحر بعدما تقاطع التيار مع قوى المعارضة ونواب التغيير على دعم ترشيح أزعور في جلسة 14 حزيران/يونيو التي أفضت إلى نيله 59 صوتاً مقابل 51 صوتاً لفرنجية. ويبدو حزب الله مرتاحاً لمواقف رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الأخيرة حول قبوله تسهيل الاتفاق على اسم رئيس الجمهورية مقابل ما يعتبره «مكاسب وطنية» تتعلق بإقرار قانون اللامركزية الإدارية والمالية وقانون الصندوق الائتماني. وقد خرج باسيل في الأيام القليلة الماضية ليتحدث عن «مسار مرشح توافقي» مع حليفه السابق في «تفاهم مار مخايل» موضحاً «أن المطروح مع حزب الله ليس تراجعاً أو تنازلاً أو صفقة أو تكويعة بل عمل سياسي، وما تحدثنا عنه هو لكل اللبنانيين وليس للتيار من قانون اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة وقانون الصندوق الائتماني اللذين نطلب اقرارهما سلفاً إلى برنامج العهد».
حوار التيار وحزب الله
وفي وقت كان الحوار بين التيار والحزب يتقدم بشكل ملموس في سباق مع عودة لودريان، لوحظ بعد حادث الكحالة أن باسيل وجّه انتقاداً معبّراً للحزب بين السطور من خلال تأكيده أن ضمانة المقاومة لا تكون بشخص «وإلا تفقد مناعتها وقوتها» مضيفاً «مَن يحمي ظهر المقاومة شعب وليس الشخص». وفي هذا الكلام دعوة ضمنية لحزب الله للتخلي عن خيار سليمان فرنجية والذهاب نحو خيار آخر قد يكون الوزير السابق ناجي البستاني.
وفي اعتقاد البعض أن الحوار الذي انطلق بين التيار وحزب الله جاء بسبب حاجة الطرفين إليه بعد بيان المجموعة الخماسية والإشارات حول احتمال السير بترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون، ما جعل باسيل يجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ بين رئيس «المردة» وقائد الجيش ويتخوّف من احتمال تبني المعارضة خيار قائد الجيش، فسرّع الحوار مع الحزب إلى أن صدرت البيانات المتتالية عن سفارات الدول الخليجية، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق، فإذا كان الحزب يراهن على استمالة أصوات التيار لصالح مرشحه فرنجية، فإن باسيل الراغب في قطع الطريق على جوزف عون وعدم فتحه أمام فرنجية يبدو في حال تخبّط بعد حصول تطورات كثيرة في المنطقة تبدأ باهتزاز التفاهم في اليمن ولا تنتهي بتراجع الحماسة للتطبيع مع سوريا وإيران، وهذا ما يفرض على رئيس التيار الاجابة على عدد من الأسئلة أبرزها إلى أي مدى سيكون مستعداً لمواصلة هذا الحوار مع الحزب في ظل التغيّر الإقليمي والدولي؟ وإلى أي مدى سيكون مستعداً للسير بفرنجية بعد كل الانتقادات التي ساقها تجاهه لناحية حجمه التمثيلي الضعيف وعدم امتلاكه رؤية إصلاحية؟ وإلى أي مدى هو قادر على أخذ جمهوره مجدداً نحو تحالف مع حزب الله في ظل تعاظم الاستياء المسيحي من تصرفات الحزب؟ وهل يثق بضمانات حزب الله والمقايضة معه لتعزيز مشروعه المسمّى مقاومة؟
وفي هذا الإطار، تشير معلومات إلى أن نواباً من التيار أبلغوا فريق المعارضة أنهم لا يزالون عند تقاطعهم على الوزير السابق جهاد أزعور، وأن الحوار مع حزب الله ما زال في بدايته وما زلنا ننتظر جوابه على الاقتراحات التي جرى التقدم بها، ما يعني أن التيار يلعب في الوقت الضائع في انتظار جلاء الصورة ولا يريد قطع الخيوط لا مع المعارضة ولا مع الحزب مع إدراكه أن ليس بمقدور الحزب وحده ضمان إقرار قانوني اللامركزية والصندوق الائتماني في المجلس النيابي بمعزل عن موافقة كتل رئيسية، كما ليس بمقدوره وحده ضمان حضور 86 نائباً لانتخاب فرنجية حتى لو تأمنت أغلبية 65 صوتاً بإصطفاف نواب التيار إلى جانب هذا الخيار.
أداء الجيش
وإذا كان باسيل يسعى لاقصاء قائد الجيش عن السباق الرئاسي، فقد جاءت حادثة الكحالة لتطرح أكثر من علامة استفهام حول أداء قيادة الجيش وتغطيتها لسلاح حزب الله وتنقلاته، وأتت الانتقادات اللاذعة لقيادة المؤسسة العسكرية وتخاذلها من قبل نواب الكتائب وبعض نواب القوات وجمهورهما لتصب في خانة رافضي ترشيح العماد جوزف عون واعتباره مرشح تسوية، وهذا يختصر المواجهة الرئاسية بين مَن يريد رئيساً يحمي «ظهر المقاومة» وخط السلاح من طهران إلى حارة حريك، وبين مَن يريد رئيساً يعيد للدولة هيبتها وصورتها ودورها ويحمي ظهر الدولة واللبنانيين ويسهر على تطبيق الدستور.
من هنا لا يبدو الخرق الرئاسي قريباً بل رهناً بالتخلي عن السقوف العالية والنزول عن شجرة الشروط وإبداء الاستعداد للسير بخيارات توافقية. وليس الحوار الذي يدعو إليه لودريان هو المدخل في نظر البعض على الرغم من اعتبار الرئيس بري هذا الحوار «آخر فرصة لانهاء أزمة الفراغ الرئاسي، فإن توافقنا فرئيس الجمهورية سيُنتخب حتماً، وينتقل لبنان من واقع مهترئ ويسلك سبل الانتعاش، وإن لم نتوافق فسندخل في دهليز مظلم ويدفع لبنان أثماناً اضافية باهظة». وما زال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ينظر إلى الحوار على أنه «بلا نتيجة ومضيعة للوقت» سائلاً «عن صيغة هذا الحوار ومع مَن نتحاور هل مع الممانعة فيما لم تنجح أي تجربة حوارية معها؟! وأي حوار هذا الذي يدعوننا فيه إلى انتخاب مرشحهم أو إلى الاقرار بمطالب، ولماذا لم نطالب نحن بشيء قبل الذهاب إلى جلسة انتخاب الرئيس بري؟ أما الشغور الرئاسي فلأن هناك أحداً يعطّل وهو محور الممانعة، والحوار الذي يدعوننا إليه هو لتضييع «الشنكاش عن المعطّل الحقيقي لانتخاب رئيس الجمهورية والقول في ختام الحوار إن اللبنانيين لم يتفقوا مع بعضهم».
لا للتنازلات
ولوحظ أن جعجع لم يخطئ في قراءته للاتفاق السعودي الإيراني عندما قلّل من أهميته وشكّك بالتزام إيران بتطبيق بنود «تفاهم بكين» خلافاً لما ذهب إليه البعض في محور الممانعة الذي استعجل التفاؤل والحديث عن انتصار وتغيير على أرض الواقع مغفلاً أن هذا الاتفاق تحدث عن «وقف التدخل في شؤون الدول» ما جعله يُصاب بخيبة أمل من المتغيرات المستجدة. أكثر من ذلك، تثبت الحوادث المتنقلة من شويا الدرزية إلى خلدة السنية وعين الرمانة وعين إبل والكحالة المسيحية أن لا بيئة لبنانية حاضنة لـ «المقاومة» وأن رهانه على فرض الرئيس عام 2023 كما فعل مع الرئيس ميشال عون في عام 2016 هو أمر غير قابل للتحقق بعدما اتخذت القوى السيادية قرارها بعدم العودة إلى سياسة التسويات والتنازلات ومقولة «أم الصبي» حفاظاً على البلد وعلى السلم الأهلي.
لذلك، من غير المفيد التعويل كثيراً على العامل الخارجي لفرض حل رئاسي طالما أن توافق اللبنانيين ميؤوس منه في الوقت الحاضر وطالما أن المستجدات الداخلية الموازية للحوار المبتور بين التيار وحزب الله لا تنبئ بإنفراجات بل بمزيد من التأزم، وهو ما ينسف أي احتمال لخرق رئاسي قريب إلا إذا كانت المعادلة «إشتدي أزمة تنفرجي».