أوردت مجلة “إيكونوميست” أن السياسة الصناعية الأميركية تشهد بداية “هادرة”. فبفضل إعانات حكومية، ثمة شركات تضخ أموالاً لبناء مصانع جديدة لأشباه الموصلات والمركبات الكهربائية، بالتالي يبدو أن وعد الرئيس بايدن بأن يكون المستقبل “صنع في أميركا”، صار قاب قوسين أو أدنى، لكن المرحلة التالية تبدو أصعب، فما من عمال تقنيين متمرسين كي يشغلوا المصانع العتيدة، ولا سيما مع اقتراب معدل البطالة من أدنى مستوياته في نصف قرن.
وبحسب المجلة البريطانية، “تشكل أشباه الموصلات الاختبار الأكثر أهمية لإحياء التصنيع في أميركا. على مدى العقدين الماضيين، غادر صانعو رقائق الكمبيوتر أميركا بنسبة كبيرة. لا يزال لدى البلاد باحثون ومصممون عالميو المستوى في مجال أشباه الموصلات، لكن القوى العاملة المتمرسة في ذلك النوع من الصناعة التكنولوجية قد هجرت البلاد على نطاق واسع. وعلى أمل انقلاب تلك الصورة، سيؤدي قانون الرقائق الإلكترونية الذي جرى تمريره العام الماضي، إلى إنفاق الحكومة 50 مليار دولار على تلك الصناعة خلال السنوات الخمس المقبلة.
وأضافت “إيكونوميست” أن التقديرات الصادرة عن “رابطة صناعة أشباه الموصلات” التي تضم شركات تعمل في ذلك القطاع، تشير إلى أن صناعة الرقائق الإلكترونية في أميركا سيواجه مع حلول عام 2030 نقصاً يتمثل في 67 ألف فني وعالم كمبيوتر ومهندس، ونحو 1.4 مليون عامل تقني متمرس في هذا المجال. وبحسب المجلة، “إذا وضعنا هذا الرقم في مقابل نحو 70 ألف طالب يكملون دراستهم الجامعية في الهندسة في أميركا كل عام، يصبح حجم العجز واضحاً”.
ووفق المجلة، ثمة مثل يأتي من أحد المواقع الذي توليه أميركا مكانة القلب في طموحاتها في شأن تلك المشكلة. ويتعلق الأمر بـ”الشركة التايوانية لتصنيع أشباه الموصلات” [TSMC تي أس أم سي] التي تعتبر كبرى الجهات المصنعة للرقائق الإلكترونية المتطورة في العالم. ووفق المجلة نفسها “تخطط تلك الشركة التايوانية لاستثمار 40 مليار دولار في مصنعين في فينيكس، بأريزونا، مما يعزز في شكل كبير قدرة أميركا على تصنيع كميات كبيرة من الرقائق الإلكترونية الدقيقة جداً. وإذا نجح الاستثمار، سيشير إلى أن أميركا يمكنها استعادة مكانة طليعية في صناعة الرقائق الإلكترونية”.
وأضافت “إيكونوميست” أنه، في وقت سابق، “تقرر أن يبدأ أول مصنع [للشركة التايوانية] في الإنتاج العام المقبل، لكن الشركة أعلنت في يوليو (تموز) أن الإطلاق سيؤجل إلى عام 2025 لأنها لم تتمكن من العثور على عدد كافٍ من العاملين المتمتعين بما يكفي من الخبرة المتعلقة بتركيب المعدات في منشأة تكنولوجية متقدمة. وأشار مارك ليو، رئيس مجلس إدارة الشركة، إنها سترسل فنيين من قاعدتها الرئيسة في تايوان لتدريب موظفيها الأميركيين”.
وبحسب المجلة، أفاد تقرير صدر في يناير (كانون الثاني) عن “معهد بروكينغز”، وهو مؤسسة بحثية، بأن أميركا في حاجة إلى “موجة من الإجراءات تشمل البلاد والولايات والبلديات” بغية توفير عدد كافٍ من العاملين لقطاع الرقائق الإلكترونية الدقيقة، وبدأت الخطوط العريضة لذلك تتشكل. وأضافت المجلة، فإن “الفجوة الأكثر إلحاحاً، بحسب ما يتضح من مشكلات “تي أس أم سي”، تكمن في قطاع البناء والتشييد. وتعتقد وزارة التجارة أن الحاجة قد تدعو إلى نشوء 100 ألف شركة بناء أثناء المرحلة الأولى من الاستثمارات في مصانع إنتاج أشباه الموصلات. ولا يمكن للحكومة أن تستحضر قوة عاملة كهذه من فراغ. في المقابل، جعلت الحكومة دعمها مشروطاً بشرح الشركات للخطوات التي ستتخذها في شأن توظيف عاملي البناء وتدريبهم”
وبمجرد بناء المصانع، وفق “إيكونوميست”، ستدعو الحاجة إلى تقنيين كي يشغلوها. ويتولى ذلك النوع من العمال التقنيين المسؤولية عن مهام على غرار فحص الأدوات والمنتجات، بالتالي، فإنهم يحتاجون تقليدياً إلى سنتين من التدريب في كلية مجتمعية أو مدرسة مهنية، بيد أن الشركات والمعلمين بدأوا في تجربة دورات أقصر بكثير. وأضافت المجلة، إن “معظم البرامج البارزة تتمثل في تلك التي يمكن إطلاقها بسرعة وتعد بتخريج تقنيين في غضون 10 أيام، وتقدم هذه البرامج كلية ماريكوبا المؤسسية في أريزونا وكلية بورتلاند المجتمعية في أوريغون. وتقدم كلية بورتلاند، بدعم من “إنتل”، وهي شركة أميركية لصناعة الرقائق الإلكترونية، رواتب للطلاب قدرها 500 دولار في الأسبوع، وتضمن الكلية الموجودة في أريزونا مقابلات لطلابها مع [تقنيين من] “تي أس أم سي”. ومع ذلك، لا توجد شركة على وشك وضع المرشحين ممن خضعوا لتدريب اقتصرت مدته على 10 أيام في مواقع تكون قريبة من آلات تبلغ قيمتها ملايين الدولارات داخل مصانعها”.
وأوضحت المجلة نفسها “أن الهدف الأكثر واقعية يتمثل في إثارة شهية الناس للعمل في صناعة أشباه الموصلات. وقد يتوفر مزيد من الخيارات الفاصلة في المستقبل القريب. وخلال خريف هذا العام، ستقدم كلية كولومبوس ستايت كوميونيتي في أوهايو، حيث تبني ’إنتل’ مصنعين، برنامجاً يعد الأول من نوعه ومدته سنة. ويهدف البرنامج إلى تخريج طلاب جاهزين للعمل لدى ’إنتل’”.
ويأتي المهندسون في الدرجة التالية على سلم العمل في ذلك النوع من المصانع، مع الإشارة إلى أن مهمتهم تتمثل في إدارة تلك المنشآت.
وبحسب المجلة، “وسعت الجامعات القريبة من بعض المصانع قيد الإنشاء، بما في ذلك أريزونا وأوهايو، عروضها المتضمنة دورات تدريب على أشباه الموصلات كجزء من برامج للحصول على درجات علمية في الهندسة والعلوم الفيزيائية. وتقود هذه المهمة جامعة بورديو في إنديانا. ففي العام الماضي، أطلقت تلك الجامعة برنامجاً للحصول على درجة في اختصاص أشباه الموصلات للطلاب الجامعيين والخريجين”.
وبحسب المجلة، يكمن الهدف في نموذج “من المختبر إلى المصنع” الذي تتبناه جامعة بورديو، في التعاون الوثيق مع الشركات. وأضافت أن “برنامج تطوير [منشآت صناعة الرقائق الإلكترونية] يشمل 49 مليون دولار لتشييد “الغرف المعقمة”، مما يتيح للطلاب الوصول إلى أنواع الظروف والمواد التي قد يواجهونها في المؤسسات التجارية [في قطاع صناعة الرقائق]، إلى جانب اختبار عزيمتهم أثناء ارتدائهم بدلات كاملة معقمة تهدف إلى إبقاء الرقائق الإلكترونية الدقيقة خالية من التلوث”. وفي المقابل، أعربت المجلة عن قناعتها بأنه “من المؤسف أن تقلص أميركا قدرتها على الوصول إلى مصدر واحد واضح للمواهب، إذ يمثل المهاجرون نحو 40 في المئة من العاملين أصحاب المهارات العالية في صناعة أشباه الموصلات داخل أميركا. وفي الوقت الراهن، يتوجب على هؤلاء أن يجتازوا برنامجين للتأشيرات، مع حدود قصوى صارمة. إن هذه الحدود القصوى ثابتة، مما يعني أنها ستصبح أكثر تقييداً [بالنسبة إلى عمل المهاجرين]، مع توسع صناعة الرقائق الإلكترونية. ويطرح سياسيون من اليمين، بمن فيهم دونالد ترمب، إلغاء فرص تحصيل التأشيرات بصورة كلية”.