تحت خط الفقر تعيش عائلة عيسى شمالي لبنان، أفرادها محرومون من أدنى مقومات الحياة، ينتظرون من يحّن عليهم بحفنة من الليرات أو بصحن طعام كي لا يناموا جياعا.
تسكن العائلة في شبه منزل، وجميع أفرادها عاطلون عن العمل. فقد عاندتهم الظروف لدرجة لا يصدقها عقل. الشاب الوحيد الذي كان يعيل والدته وشقيقتيه أصبح عاجزا عن الحركة بشكل طبيعي بعدما سقط من علو ثلاث طوابق قبل عام، خلال عمله في ورشة بناء. أما والدته التي كانت تعينه من خلال زراعة الحقل ترقد في المستشفى بعد أن خذلها قلبها وتحتاج عملية جراحية.
لا كلمات يمكنها وصف حالة عائلة عيسى، وكما تشدد زينب لموقع “الحرة”، “لسنا فقراء، بل معدمين، فأبسط الأمور لا نملك ثمنها، منذ أشهر نعجز عن شراء قارورة غاز، نتكّل على الحطب لإعداد وجبة أرز إذا ما توفر الآخر لدينا، فحتى الماء والكهرباء لا تعرف ديارنا، ولولا لوح الطاقة الشمسية الذي تكرمت الأمم المتحدة بتقديمه لنا والذي بالكاد يضيء لمبة لساعات قليلة، لكانت الظلمة ظلنا الذي لا يفارقنا، باختصار نعيش حياة الإنسان القديم في كهف يتخذ شكل منزل”.
لا أبواب ولا بلاط ولا دهان ولا مطبخ، في بيت آل عيسى، يشرح أحمد شقيق زينب لموقع “الحرة”، “هو مجرد سقف يحمينا من برد الشتاء وحرارة الصيف، وكل يوم يسوء وضعنا أكثر، نتمنى أبسط الأشياء التي هي بديهيات عند بقية الناس، فهل من يصدق أنه في هذا العصر لا أحد منا يملك هاتفا خليويا، وإذا صدف وأن أراد شخص التواصل معنا لا سبيل أمامه سوى الاتصال على رقم جارنا، ولا أبالغ أبدا بالقول إننا أموات على قيد الحياة”.
كشف استطلاع جديد أجراه البنك الدولي مؤخرا أن “ثلاثا من كل خمس أسر في لبنان يُصنّف أفرادها أنفسهم كفقراء أو فقراء جدا، خصوصا الذين لا يتلقون تحويلات من الخارج”، لافتا في تقرير له حول آفاق الفقر في العالم إلى أنه “في وقت تراجعت فيه مستويات البطالة، فإنّ غالبية الأشخاص أصحبوا يعملون في وظائف ذات جودة منخفضة”.
بين المبالغة والواقعية
حتى الأحلام هجرت آل عيسى، وتقول زينب “منذ وفاة والدي قبل خمس سنوات بدأ شبح المأساة يطل برأسه علينا، قبل أن يدخل ويحتل كل زاوية من حياتنا مع إصابة شقيقي أحمد ذو الـ 28 عاما، وعدم قدرتنا على علاجه وتأمين ثمن دوائه، واليوم تصارع والدتي الموت الفعلي على سرير المستشفى، ولولا جهود بعض الناشطين في البلدة لجمع مبلغ مالي لمساعدتها في رحلة شفائها لا نعلم ماذا كان حلّ بها”.
فكّرت زينب في البحث عن عمل لضمان عدم انقطاعهم من الخبز، لكن حالة شقيقها الصحيّة ومعاناته كذلك من كهرباء في رأسه، دفعتها إلى استبعاد الفكرة، فهو يحتاجها أن تكون هي وشقيقته الثانية إلى جانبه، ويقول: “شقيقتي الثالثة متزوجة لكن أوضاع زوجها المادية لا تسمح له بأن يساندنا ولو بالقليل، فالأزمة الاقتصادية ترخي بظلالها على جميع اللبنانيين، فارضة عليهم أن يكونوا من أصحاب الملايين ليتمكنوا من تأمين قوت يومهم فقط”.
كما عبّر جار أحمد عن درجة الفقر المدقع الذي أنهكهم، آملا أن يقف أصحاب الأيادي البيضاء إلى جانبهم، ويقول: “هم يحتاجون إلى كل شيء من طعام وشراب ودواء وكهرباء ومفروشات وأدوات كهربائية وغيرها، وإن بدؤوا قبل شهرين الاستفادة من بطاقة مساعدة وزارة الشؤون الاجتماعية، إلا أنها وحدها لا يمكن أن تنتشلهم من براثن الفقر”.
هناك التعريف الأكاديمي للفقر، ومنه تعرّيف الأمم المتحدة بأنه “أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث أن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة الى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات”، لكن هناك فرق بين هذا التعريف وما يحصل على أرض الواقع في لبنان، بحسب ما يقوله الباحث الاقتصادي وخبير المخاطر المصرفية، الدكتور محمد فحيلي.
لا يمكن إنكار أن للفقر موطئ قدم في لبنان، بحسب فحيلي “وكذلك اضطرار اللبنانيين إلى التقشف بعدما كانوا يعيشون حياة تميل إلى الرفاهية، لكن الحديث عن فقر مدقع ومجاعة تسللت إلى ثلاث من خمس أسر أمر مبالغ فيه، كونه يعني أن لدينا ما يقارب من 750 ألف أسرة فقيرة، فيما لو افترضنا أن عدد سكان لبنان خمسة ملايين نسمة، ما يفترض وجود مشكلة اجتماعية مستفحلة في كل شارع لبناني، وهو ما لا نلمسه”.
ويوضح أن قدرة القطاع الخاص اللبناني على التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية، حيث إن ما يزيد عن الـ80 في المئة منه أصبح مدولراً، تدحض ما توصل إليه البنك الدولي فيما يتعلق بنسبة الفقر، وذلك رغم أن “الاقتصاد اللبناني انكمش من 55 مليار دولار، سنة 2018، إلى 18 مليار دولار اليوم، منها عشرة مليارات تحويلات من الخارج، سبعة منها تدخل عبر قنوات رسمية وثلاث بطرق غير رسمية، عدا عن المليارات التي يخبئها اللبنانيون في منازلهم”.
مع انهيار سعر صرف الليرة وازدياد الأسعار، ارتفعت تلقائيا كلفة المعيشة في لبنان بنسبة 196 في المئة، حتى بداية شهر أبريل هذا العام، مقارنة بشهر أكتوبر 2022، كما جاء في دراسة لـ “الدّوليّة للمعلومات”.
قدر عدد أفراد الأسرة بأربعة، وتم الأخذ بعين الاعتبار الفروقات المعيشية في السكن بين القرية أو المدينة، والسكن بالتملك أو الإيجار، وخلصت الدراسة إلى أن كلفة معيشة هذه الأسر مماثلة، تتراوح بين 39 مليون ليرة و77 مليون ليرة شهريّا بالحد الأدنى (من دون احتساب كلفة الصحة والاستشفاء)، بينما تراوحت هذه الكلفة في أكتوبر 2022، بين 20 مليون ليرة و26 مليون، وهذا يعني أن كلفة المعيشة قد ارتفعت، من أكتوبر ولغاية أبريل 2023، بنسبة تراوحت بين 95 و196 في المئة.
تضخّم “جنوني”
سبق أن أشار البنك الدولي إلى أن “لبنان احتل المرتبة الأولى ضمن الترتيب العالمي لناحية تضخم أسعار الغذاء بارتفاع نسبته 261 في المئة، بين نهاية فبراير 2022 ونهاية فبراير 2023″، وقبل أيام لفت إلى أن متوسّط تضخّم الأسعار في هذا البلد سجّل 171.2 في المئة، في عام 2022، متوقعا أن يبلغ متوسّط التضخّم 165 في المئة، في عام 2023. وقبل يومين أشار موقع “World of Statistics” إلى أن لبنان سجّل أعلى نسبة تضخّم في أسعار الغذاء عالميا بنسبة 352 في المئة.
يرى فحيلي أن السبب الرئيسي خلف ارتفاع الأسعار في لبنان هو فقدان المواطنين الثقة بالوضع الاقتصادي والنظامين السياسي والمالي وكذلك بأجهزة الرقابة والقضاء، و”يتجسد فقدان الثقة اقتصاديا بعدة مظاهر منها التضخم، حيث يتخلى المواطنون عن التعامل بعملتهم المحلية وتتراجع رغبتهم بالاستثمار، لا سيما في ظل تجميد أرصدتهم في المصارف والتي تقدر بـ 100 مليار دولار، إذ يعجزون عن الوصول إليها إلا على سعر صرف 15 ألف ليرة أو بمبالغ قليلة، باستثناء المستفيدين من التعميم 158 الذين يحصلون على الفريش دولار”.
“عندما يفقد المواطن الثقة بالنظام السياسي، تصبح العملة المحلية بالنسبة له، من دون قيمة”، بحسب فحيلي، موضحا أن “هذا العامل النفسي ينعكس غلاء في الأسعار، وبالتالي الربط بين ارتفاع سعر صرف الدولار وارتفاع الأسعار لم يعد واقعيا، والدليل بعد دولرة الأسعار تراجع سعر صرف الدولار بالنسبة إلى العملة اللبنانية، لكن أسعار السلع أخذت منحى تصاعديا، فالدولرة أعطت لأصحاب السوبرماركت والتجار هامشا لرفع الأسعار من دون أن يشعر المواطنون، كما أن نسبة التضخم تختلف من منطقة إلى أخرى، حيث أن لكل سلعة سعر يختلف بحسب المنطقة التي تباع فيها”.
ويستبعد الباحث الاقتصادي أن تكون السلة الغذائية التي تم الاستناد عليها لقياس نسبة التضخم تمثل كل المواطنين اللبنانيين، “لا سيما وأن المتغيرات الاقتصادية دفعت اللبناني إلى تبديل خياراته الاستهلاكية كي يتمكن من تأمين حاجياته الأساسية، وهذا هو سبب قدرته على التأقلم والصمود رغم كل الظروف الصعبة التي يمر بها اقتصاد بلده”.
من جانبها، لا تستبعد الخبيرة الاقتصادية، ليال منصور، نسبة التضخم التي وصل إليها لبنان، وتقول لموقع “الحرة” إنها ليست المرة الأولى، التي يحتل فيها البلد أولى المراتب عالميا، إذ “وهذا يعود أولا إلى التضخم المستورد، أي الارتفاع العالمي للأسعار يضاف إليه التضخم الناتج عن انهيار العملة الوطنية”.
وتشير إلى أنه “لولا تحويلات المغتربين التي تعادل 40 في المئة من الناتج القومي.. لما تمكن المواطنون من الصمود وتأمين مصاريفهم الاستهلاكية من طعام وشراب وملبس”، مشيرة إلى أن “لبنان احتل المرتبة الثانية عالميا من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي التي بلغت 37.8 في المئة في العام 2022”.
وكان البنك الدولي قدّر حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان بـ6.8 مليار دولار، في عام 2022، ليحل في المركز الثالث إقليميّا مسبوقاً فقط من مصر والمغرب، والمركز الأول في المنطقة والمرتبة الثانية عالميا، من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي.
الحجر الأساسي للنهوض
ويؤكد رئيس جمعية عكار الزاهر الخيرية، رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار ومختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، من خلال احتكاكه بالمواطنين، أن 70 في المئة منهم عاجزون عن تأمين صحنهم اليومي، وذلك نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية التي أصبحت بأغلبيتها بالدولار، الذي يقترب سعر صرفه من عتبة إلى الـ 100 ليرة”.
ويقول في حديث لموقع “الحرة” إن “الموظفين الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية والعائلات التي لا تصلها تحويلات مالية من الخارج، أصبحوا في عداد الفقراء”.
الرفاهية أصبحت من الماضي والكارثة الكبرى تكمن بحسب الكسار “في الطبابة والاستشفاء” ويشدد: “أيا يكن حجم المساعدات التي تصل إلى لبنان لن تغطي جميع المحتاجين، من هنا نرى الهجمة من بعض اللبنانيين على اللاجئين السوريين، الذين يشاركونهم في الحصول على المساعدات، وعلى الحكومة اللبنانية والمنظمات الدولية تحمّل مسؤوليتها كي لا نصل إلى ما لا تحمد عقباه”.
وذكر الكسار أن تواصل الجمعيات غير الحكومية ورجال الدين في عكار مع المغتربين ساهم في التخفيف من مأساة بعض المواطنين، لكن “كل هذه والمبادرات لا يمكنها أن تلعب دور الحكومة اللبنانية، وإلى حين انتخاب رئيس جمهورية وتأليف حكومة والبدء بإصلاحات تضع حدا للانهيار المستمر منذ حوالي الأربع سنوات، لا بد من تأمين مصادر دعم إضافي لوزارة الشؤون الاجتماعية كي تتمكن من توزيع بطاقات مساعدة لكل الفقراء والمعدمين”.
توقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد في لبنان بنسبة 0.5 في المئة هذا العام، بعد أن تراجع بنسبة 2.6 في المئة، في عام 2022، لافتا إلى أن الانكماش الاقتصادي الذي ألمّ بهذا البلد، بين عامي 2018 و2022، أطاح النمو الاقتصادي الذي تحقق على فترة أكثر من 15 عاما.
يعتبر فحيلي أن الموازنة العامة للعام 2022، أطلقت عجلة الانكماش الاقتصادي لهذه السنة “كونها استهدفت قدرة اللبناني على تمويل فاتورته الاستهلاكية، إذ بموجبها رُفع سعر صرف الدولار الرسمي واحتسبت الرسوم والدولار الفريش في المصارف على منصة صيرفة وفرضت ضريبة على الدخل بالدولار وبمفعول راجعي، وأقرت نفقات إضافية من دون تأمين تمويلها، ما تسبب بضغوطات تضخمية استهدفت الاستهلاك”.
وأكد أنه “بالتالي، كل نمو سيشهده لبنان في هذه المرحلة مصدره الاستهلاك والتحويلات من الخارج ورغبة المواطنين بالإنفاق”.
وترى منصور أن تراجُع نسبة الانكماش الاقتصادي مقارنة بالسنة الماضية لا يعني أن الانهيار توقف بالضرورة، بل “سيستمر إلى حين اعتماد نظام صرف جديد يُستغنى من خلاله عن العملة الوطنية، فهذا هو الحجر الأول في مشروع إعادة اعمار اقتصاد البلد”.