محنة لبنان لا حدود لها. ومشكلته أبعد من شغور رئاسي وفراغ سلطوي وتكامل أزمات وطنية وسياسية ومالية واقتصادية واجتماعية في منطقة رمال متحركة. إنها العمل على تخريب نسيجه الاجتماعي وتغيير دوره الطبيعي الذي هو مبرر وجوده كأرض حرية وانفتاح ونوع من برلمان العرب، وتجربة عيش مشترك بين 18 طائفة بالمعنى السياسي لا البيولوجي والاجتماعي فقط، ومرصد فكري وثقافي وشرفة جميلة في المبنى العربي كما كان يقول محمد حسنين هيكل، والوطن الثاني لكل عربي.
في مرحلة الحروب العربية- الإسرائيلية حين كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب جرى اعتبار لبنان في القمم العربية “دولة مساندة”.
وعشية هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وقبل حرب أكتوبر (تشرين الأول) وبعدها جرى التخطيط لبدء الكفاح الفلسطيني المسلح من لبنان تحت شعار الحرب الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الرئيس أنور السادات يسمي حرب أكتوبر التي عبر فيها الجيش المصري قناة السويس إلى سيناء “آخر الحروب”. وكان شريكه في الحرب الرئيس حافظ الأسد يسميها “الحرب الناقصة”، لكن الحرب الناقصة بقيت بلا اكتمال في قرارات القمم العربية، ومعها مشروع “الجبهة الواحدة من الناقورة إلى العقبة”.
وكانت عملياً آخر الحروب التي جاءت بعدها اتفاقات فك الارتباط في كل من سيناء والجولان، ثم معاهدة كامب ديفيد ومعاهدة وادي عربة واتفاق أوسلو قبل الوصول إلى “اتفاقات أبراهام” بين إسرائيل وعدد من الدول العربية خارج ما كانت تسمى “دول الطوق”.
أما لبنان، فإن حصته كانت “اتفاق القاهرة” الذي أعطى منظمة التحرير الفلسطينية بشخص الرئيس ياسر عرفات حرية الحركة الفدائية في لبنان وعبر حدوده. وهو ما قاد بعد أحداث “أيلول الأسود” في الأردن إلى تجمع كل الثورة الفلسطينية وفصائلها في لبنان ثم إلى حرب لبنان الطويلة التي تخللها الدخول العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي.
بعد تجربة المقاومة الفلسطينية التي صارت تقاتل في لبنان بدلاً من أن تقوم بعمليات ضد إسرائيل، جاءت تجربة المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” على يد الجمهورية الإيرانية. ويروي نائب الرئيس السوري يومها عبدالحليم خدام في مذكراته إنه “عام 1982 أرسلت طهران لواء من الحرس الثوري إلى سوريا بالاتفاق معها، وقد توجه قسم كبير منه إلى بعلبك وعمل على تشكيل حزب الله. لم يكن الرئيس الأسد قلقاً من النفوذ الإيراني كما لم يكن في ذهنه أن إيران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها وطموحها للتوسع الإقليمي”.
ويتابع، “لم يكن الأسد يقلقه التمدد الإيراني في لبنان، وكان في ذهنه دائماً صدام حسين من جهة، ولبنان من جهة أخرى، وفي المسألتين (إيران هي الحليف)”.
المقاومة الإسلامية نجحت في إخراج إسرائيل مدحورة من الجنوب اللبناني عام 2000، لكنها أصرت على البقاء وتعاظم القوة كمقاومة احتياطية ضد أي اعتداء إسرائيلي، وهو خطر لا ينتهي، ثم بدأت على مراحل الإمساك بمفاصل السلطة ومؤسسات الدولة وتعطيل الانتخابات الرئاسية إن لم يكن المرشح هو خيارها الوحيد.
أيام المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بقي لبنان يتمتع بمساعدات وعلاقات عربية جيدة، وظل اقتصاده يعمل. بعد أن صارت المقاومة تقاتل في سوريا واليمن وتتدخل في العراق وبلدان أخرى عوقب لبنان بنوع من العزلة، لكن “حزب الله” المرتبط عضوياً بالمشروع الإقليمي الإيراني يدفع لبنان إلى “وحدة الساحات في محور المقاومة”.
وبعد أن كان لبنان نوعاً من “بلد حاجز” صار “جبهة أمامية” في حرب أكبر منه، حيث انتهت الحروب العربية-الإسرائيلية، وأصبح الصراع الإيراني-الإسرائيلي البديل من الصراع العربي-الإسرائيلي. فكيف يستطيع لبنان المنهار أن يحمل كل هذه الأثقال؟ هل يكفي أن يقال له إن دوره الجديد صار مبرر وجوده في معركة يراها السيد حسن نصرالله “مسألة وجود”؟ وما هي هذه الحرب التي تهدد بها إسرائيل كما يهدد بها “حزب الله” إذا كانت مجرد تبادل الدمار والأذى من دون تحرير شبر أرض ولا تغيير شيء؟
وراءنا تجارب عدة لقوى حاولت الهيمنة على البلد، سواء أكانت محلية أو إقليمية ودولية، ثم فشلت. وإذا كانت المافيا الحاكمة والمتحكمة رافضة لإجراء إصلاحات مالية واقتصادية في بلد مفلس، فإن من الوهم نجاح أي طرف مهما يكن قوياً في تغيير لبنان ضد إرادة العرب والقسم الأكبر من اللبنانيين.