على رغم مرور أكثر من ألف يوم على انفجار مرفأ بيروت، الذي وصف بأنه أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، الذي أدى الى مقتل نحو 220 شخصاً، وإلى دمار واسع النطاق في العاصمة وضواحيها، لا تزال التحقيقات المحلية متوقفة، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد سلسلة قرارات بتعليق عمل المحقق العدلي القاضي طارق البيطار نتيجة دعاوى مقدمة ضده من عدد من المدعى عليهم، وحتى الآن لم يتمكن المحقق العدلي من إصدار قراره الظني في القضية، على رغم مطالبة أهالي الضحايا والمجتمع الدولي وقوى سياسية لبنانية عدة بتحقيق العدالة.
وتعود الذكرى الثالثة على الانفجار، ولا تزال هوية الجهة المسؤولة عن كمية نيترات الأمونيوم التي تسببت بالانفجار مجهولة، ولا حكماً ولا متهماً ولا محاسبة بعد، باستثناء بارقة أمل تمثلت بحكم بريطاني صدر في يونيو (حزيران) على شركة “Savaro Ltd” المسؤولة عن شراء وبيع الـ 2750 طناً من النيترات التي أرسلت إلى مرفأ بيروت وخزنت في العنبر رقم 12 منذ عام 2013، وأهمية الحكم الصادر عن المحكمة البريطانية العليا أنه قد يشكل بداية لفكفكة العقد المترابطة في هذا الملف بدءاً بهوية الجهة التي اشترت النيترات، على رغم أنه لم تبرز معطيات جديدة ليست موجودة في الملف اللبناني، وفق ما يؤكد لـ”اندبندنت عربية” المحامي البروفيسور نصري دياب الذي تولى القضية أمام المحكمة البريطانية بالتعاون مع وزير العمل السابق المحامي كميل أبو سليمان شريك مكتب المحاماة “DECHERT LLP” البريطاني.
الحكم البريطاني
في 12 يونيو 2023 اختتمت مسيرة طويلة كان مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت بدأها قبل ثلاثين شهراً، حين قدم بعد أربعة أشهر على الانفجار، دعوى مدنية أمام محكمة العدل العليا في بريطانيا ضد شركة “سافارو”، التي ظهر اسمها في ملف حمولة نيترات الأمونيوم التي وصلت إلى مرفأ بيروت عام 2013 على متن الباخرة “Rhosus” وانفجرت بعد سبع سنوات من تخزينها في المرفأ، ويؤكد الدكتور ناصر دياب المحامي الذي تابع القضية، أن “سافارو” تصرفت بالحمولة خلال السنوات اللاحقة لتفريغها تصرف المالك بملكه، إذ أوكلت عام 2013 محامياً لبنانياً وتقدمت بطلبات قضائية وتراسلت مع جهات رسمية لبنانية ما أثبت صفتها في الملف.
وحكمت المحكمة العليا البريطانية على شركة “سافارو” المسجلة في بريطانيا، بدفع تعويضات قدرت بـ 800 ألف جنيه استرليني (نحو مليون و116 ألف دولار أميركي) لأربع ضحايا، بعد أن خلصت إلى تحميلها مسؤولية وقوع وفيات وإصابات وأضرار في الممتلكات، وشملت التعويضات عائلة الطفلة التي كانت ضحية الانفجار، الكسندرا نجار البالغة من العمر ثلاث سنوات بمبلغ قدره 200 ألف جنيه استرليني (253 ألف دولار أميركي)، وإيلي ملاحي والد رجل الإطفاء رالف ملاحي الذي توفي كذلك في الانفجار، بتعويض قدره 100 ألف جنيه استرليني (126 ألف دولار أميركي)، وضحية طلب أهلها الحفاظ على سرية الإسم، أما المدعية إنعام الكيال، التي أصيبت بجروح بالغة، فقد حكم لها بالحصول على مبلغ 550 ألف جنيه استرليني (695 ألف دولار أميركي) لتغطية تكاليف علاجها الطبي.
شكوك من اللحظة الأولى
لا رابط بين الدعوى البريطانية واللبنانية يقول المحامي دياب، فالأولى مدنية والثانية جزائية، ومن الصعب أن تضيف الدعوى البريطانية شيئاً إضافياً على الملف اللبناني الذي لا يزال مضمونه سرياً، خصوصاً أنه على عكس القاضي الجزائي، فالقاضي المدني لا يبحث عن الوقائع أو الحقيقة التي هي من مهمة الفرقاء المعنيين في الدعوى أي المدعى عليهم والمدعين، ويؤكد دياب أن استراتيجيته كانت منذ البداية فك ارتباط الملف البريطاني عن الملف اللبناني، حتى لا يتأثر الملف في الخارج إذا توقف في لبنان كما هو حاصل الآن، ويكشف أن المحاكمة في بريطانيا لم تبرز تطورات جديدة لا يعرفها القضاء اللبناني، لكنها أسهمت في فكفكة عقدة أولى من سلسلة العقد التي تكون هذا الملف، والمتمثلة بهوية الشركة وصاحبها الذي يحمل الجنسية الأوكرانية، ومنها قد حصلت فكفكة الملفات الأخرى المتصلة بالجهة التي اشترت النيترات والتي استخدمت كمية منه قبل حصول الانفجار وصولاً إلى معرفة كيفية حصوله.
ويؤكد المحامي دياب أن “سافارو” ليست شركة وهمية، بل موجودة، ولها فروع في أكثر من دولة، وهي عمدت بشكل مريب إلى عملية تصفية طوعية، في التوقيت نفسه مع شركات أخرى لها علاقة بالملف اتخذت أيضاً إجراءات تصفية، وكشف دياب أن المحامين حاولوا خلال المحاكمة الوصول إلى صاحب الحق الاقتصادي النهائي للشركة، وبعدما وافق القاضي البريطاني وأمر محامي الشركة بالكشف عن هوية مالكها، لكنها امتنعت عن ذلك فتم تغريمها. علماً أن البحث عن الوقائع الذي قام به وكلاء الضحايا أظهر أن صاحبها هو من الجنسية الأوكرانية، وكانت معلومات صحافية أشارت إلى ارتباط بين شركة “سافارو” واثنين ن رجال الأعمال السوريين، أحدهم هو “مدلل خوري”، المدرج على قائمة العقوبات السوداء للولايات المتحدة الأميركية، لأنه عمل وسيطاً للنظام السوري في محاولة لشراء كميات من نترات الأمونيوم للنظام السوري في أواخر عام 2013، وكلا الرجلين أنكرا أي صلات له بشركة “سافارو”، وتنصلا من أية مسؤولية عن الانفجار.
هل ينفذ الحكم؟
على رغم تشكيك بعض المتابعين للقضية بإمكانية تنفيذ هذا القرار الصادر عن المحكمة البريطانية، وأنه في حال رفضت شركة “سافارو” تنفيذ هذا القرار طوعاً، سيكون التوجه نحو التنفيذ الإجباري، وهذا يعني حجز المحكمة البريطانية على أملاك الشركة وبيعها في المزاد العلني، فإن المحامي دياب الذي تابع الدعوى أمام المحكمة العليا البريطانية يعتبر أن هناك إمكانية كبيرة في تنفيذ الحكم الصادر بحق شركة “Savaro” لأن للشركة فروعاً في أكثر من دولة يمكن ملاحقتها وليست يتيمة أو وهمية كما يحلو للبعض القول، ولكن مع ذلك لم يتضح بعد إذا كان المدعون سيحصلون على الأموال أم لا، ويؤكد دياب أن الأهم معرفة الحقيقة ولو جزئياً وإحقاق الحق ولو بشكل كامل وإعادة الأمل للضحايا بأن الحق يسمو دائماً.
في المقابل يؤكد دافيد ملاحي شقيق رالف ملاحي، رجل الإطفاء، الذي قتل في الانفجار أثناء محاولته إطفاء الحريق الأول الذي سبق الانفجار، وهو ممن شملتهم التعويضات، أن الأموال لا تهمهم، وأكد لـ”اندبندنت عربية” أنه لا ينتظر تعويضاً عن حياة شقيقه، بل يريد الحقيقة ومحاسبة مرتكبي هذه الجريمة الفظيعة، “المهم بالنسبة إلينا أن هذا الحكم أثبت مسؤولية “سافارو” مالكة النيترات التي سبق وادعى عليها المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في بيروت، بانتظار معرفة كيفية وصول المادة المتفجرة، ومن اشتراها، ومن خزنها في المرفأ، ومن قتل إخوتنا وأهلنا ودمر منازلنا”.
وعلمت “اندبندت عربية” أن دعاوى مماثلة فتحت في محاكم أميركية بالتوازي مع تحركات مستمرة للأهالي مع قوى سياسية باتجاه مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة للتوصل إلى قرار بتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية، وكشف المحامي دياب أنه يستعد لتحريك الملف في فرنسا ومساعدة الضحايا، وهم لبنانيون يحملون الجنسية الفرنسية، وهناك دعوى جزائية مقامة والتحقيقات جارية بمعزل عن التحقيقات في لبنان، كما سيتبع المسار نفسه في كندا حيث تبين أن هناك ولايات يسمح فيها القانون بإقامة دعاوى مماثلة لمواطنين لبنانيين يحملون الجنسية الكندية وكانوا من ضحايا الانفجار.