في السياق، يشير الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية مارون خاطر، في حديث لـ”اندبندنت عربية”، إلى أنه “في تقرير صدر عن مجلس الذهب العالمي في يناير (كانون الثاني) 2024، تبين أن لبنان يمتلك 286.8 طن من احتياط الذهب”، معتبراً أن “هذا الرقم يضع لبنان في المرتبة الـ21 بين 96 دولة من حيث حيازة الذهب، وذلك مقارنة مع حيازات صندوق النقد الدولي، والبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك التسويات الدولية”.
كما يلفت خاطر إلى أن “لبنان حل في المركز الثامن بين الدول غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والمركز الثاني بعد السعودية، بين 16 دولة عربية شملها الاستطلاع”، معتبراً أن “هذه النتائج تبرز مكانة لبنان الاقتصادية وتحديداً في مجال حيازة الذهب على المستويين الإقليمي والعالمي”.
لمحة تاريخية
ويعد المعدن النفيس في لبنان جزءاً لا يتجزأ من تاريخه الاقتصادي والمالي، حيث سعت الدولة عبر عقود لتعزيز احتياطاتها من الذهب، ليصبح عنصراً حيوياً في ترسيخ استقلالها المالي وتحصين اقتصادها في مواجهة التحديات.
في هذا الإطار، يشرح المتخصص الاقتصادي، نسيب غبريل، أن “لبنان بدأ بتجميع احتياطات الذهب في عقد الستينيات تحت إدارة (رئيس الجمهورية السابق) إلياس سركيس، الذي كان حاكم المصرف المركزي آنذاك. ورأى سركيس في الذهب دعامة لتثبيت العملة المحلية، مستفيداً من النظام المالي العالمي حينها، حيث كان الدولار يعتمد على قيمة الذهب. وتحت قيادته، اكتسب لبنان كميات كبيرة من الذهب، مما زاد احتياطاته إلى 9.2 مليون أونصة، تتأثر بتقلبات أسعار الذهب العالمية”.
ويشير غبريل إلى أنه “في السبعينيات، فك الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب، في حدث أصبح يعرف بـ”صدمة نيكسون”، مما أسفر عن فصل العملات العالمية عن العملة الصفراء. لكن ظل هناك بند في قانون النقد والتسليف اللبناني لعام 1963 ينص على أن سعر صرف الليرة يتحدد بناء على قيمة الذهب، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي”، لافتاً إلى أنه “على رغم التغيرات العالمية، بقي احتياط الذهب عاملاً مهماً لثقة المستثمرين في لبنان. وفي عام 1986، وضع البرلمان اللبناني قانوناً يحظر التعامل مع احتياط الذهب إلا بموافقة غالبية النواب، لضمان حماية احتياطات البنك المركزي”.
ويوضح غبريل أنه “يتم تخزين نصف الذهب في لبنان والنصف الآخر في الولايات المتحدة في قلعة فورت نوكس، الخزانة الرئيسة لاحتياط الذهب، لأغراض الأمان”، لافتاً إلى أن “صندوق النقد الدولي، ضمن اتفاق مع الحكومة اللبنانية في أبريل (نيسان) 2022، طلب مراجعة الأصول الأجنبية للبنك المركزي، وأثبتت النتائج صحة الكميات المعلنة من الذهب”.
أهمية الذهب
ويؤكد غبريل “الدور المحوري للذهب في الاقتصاد اللبناني”، مشيراً إلى أنه “بعد انتهاء الحرب في لبنان عام 1990، كان الذهب يشكل عنصراً حاسماً في استقرار الاقتصاد اللبناني، إلا أن وجوده لم يمنع حدوث أزمة اقتصادية”، مشيراً إلى أن “السبب الرئيس هو سوء إدارة السلطات السياسية والاستخدام غير الفعال للموارد العامة”، لافتاً إلى أنه “في سبتمبر (أيلول) 2019، وقبل تفاقم الأزمة، كان لدى لبنان ما يقارب 32 مليار دولار من احتياطات العملات الأجنبية، وبإضافة قيمة الذهب، كانت الأصول الأجنبية تقدر بنحو 48 إلى 50 مليار دولار، مما يدل على أن وجود الذهب وحده لا يكفي لمنع الانهيار الاقتصادي في ظل الإدارة السيئة”.
بدوره، شدد وزير المالية اللبناني الأسبق والمتخصص في الشأن الاقتصادي البروفيسور جورج قرم، في حديث خاص لـ”اندبندنت عربية”، على أن “الذهب يمثل جزءاً جوهرياً من الهوية اللبنانية”، مؤكداً أن “بدء بيع الذهب قد يحمل تداعيات سلبية رمزية”.
اقتراحات وحلول
مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب وغياب حلول واضحة، تتعاظم المخاوف من أن يصبح الذهب ضحية جديدة لإهدار وسرقة موارد الدولة والمودعين، وأن يستغل في تمويل المحسوبيات.
ويطرح قرم “استراتيجية استخدام عمليات المبادلة في نيويورك، بحيث يتم رهن الذهب لفترة تراوح بين ستة أشهر وعام”، معتبراً أن “هذه الخطوة كفيلة بتحقيق بعض العائد من دون التضحية بالاحتياط الأخير للبلاد”.
في الوقت عينه، يشدد قرم على “أهمية مخزون الذهب وعدم المساس به، الذي تم تكوينه في عهد رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب وبإدارة (حاكم البنك المركزي آنذاك) إلياس سركيس”، مؤكداً أن “مكافحة الفساد وتطبيق سياسات فعالة، عوامل أساسية لحل مشكلات لبنان الاقتصادية”.
وتحدث قرم عن “أهمية البحث عن دعم من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي”، مشيراً إلى “النموذج المصري كمثال”، مستدركاً في الوقت عينه “اختلاف الوضع في لبنان لغياب مصادر دخل قوية كقناة السويس في مصر”، لافتاً إلى أن “هناك فرصاً يمكن استغلالها من خلال الاتفاقات العربية والصناديق التنموية”، مؤكداً “ضرورة أن تمتلك الحكومة اللبنانية “القدرة والتركيز على استثمار هذه الفرص”.
من ناحيته رأى الباحث مارون خاطر أن “هناك قلقاً من أن مجلس النواب قد لا يقف حاجزاً قوياً ضد التجاوزات من جانب السلطة التنفيذية، خصوصاً مع التدخلات السياسية التي شهدناها في موازنة 2024 وقوانين أخرى. وفي ضوء غياب الثقة بالمؤسسات الحاكمة سواء كانت تشريعية، تنفيذية، أو مالية، ومع تعطيل العدالة والمحاسبة، يبدو أن الاعتماد على الذهب كحل مستبعد في الفترة الحالية، في انتظار أن يستعيد لبنان وضعه كدولة فعلية بعدما تراجع إلى مستوى يكاد يكون دون ذلك بسبب السياسات المتعاقبة”.
بدوره، يلفت غبريل إلى أن “الاحتياط، الذي تقدر قيمته بين 15 إلى 17 مليار دولار بحسب أسعار السوق، طرح كحل لتمكين البنوك من إقراض القطاع الخاص والسماح للمودعين بسحب جزء من أموالهم. ومع ذلك، فإن غياب الثقة بين الشعب والسلطة السياسية، إضافة إلى الحاجة إلى تصويت مجلس النواب مع طلب رسمي من الحكومة، جعل تسييل جزء من الذهب غير ممكن في عام 2022”.
وكشف غبريل أنه “طُرحت فكرة رهن جزء من الذهب مقابل ثلاثة وأربعة مليارات دولار، عبر عمليات يقال إنها جرت مع مصارف استثمارية عالمية، لضخ هذا المبلغ في القطاع كأنه في ساعد النظام المصرفي. الهدف من ذلك كان توفير السيولة للمودعين لسحب أموالهم تدريجاً بالعملة الأجنبية وإقراض القطاع الخاص. ومع ذلك، لم تصل هذه الفكرة إلى مرحلة النقاش الرسمي في مجلس الوزراء، وظل الرأي الشعبي متحفظاً تجاه فكرة رهن احتياط الذهب”.
في سياق متصل، يشير غبريل إلى أن “قيمة احتياط الذهب في مصرف لبنان بلغت 18.4 مليار دولار في منتصف فبراير (شباط) 2024، بينما وصلت إلى 19.2 مليار دولار في نهاية 2023، مسجلة بذلك أعلى مستوياتها على الإطلاق، نتيجة ارتفاع أسعار الذهب عالمياً”، معتبراً أن “هذا التطور يظهر الحاجة إلى بيئة مناسبة لمناقشة كيفية الاستفادة المثلي من هذا الاحتياط الثمين”.