وكان من المتوقع أن تصدر شركة التدقيق المحاسبي الأميركية تقريرها الأولي عن نشاط مصرف لبنان من عام 2015 إلى 2021 بغضون ثلاثة أشهر، إلا أن التقرير لا يزال “مغيباً” منذ ثمانية أشهر، الأمر الذي أثار الشكوك حول وجود ضغوطات سياسية تحول دون الإفصاح عن مضمونه للرأي العام.
“تغييب” مريب
مصادر مواكبة لعمل “ألفاريز آند مارشال”، تؤكد أن الشركة قدمت تقريرها الأولي ضمن المهلة المتفق عليها في العقد لوزارة المالية، وقد تقاضت 90 في المئة من القيمة الإجمالية للعقد والبالغة 2.7 مليون دولار، في حين أن العقد يشير أن نسبة الـ 10 في المئة المتبقية تتقاضها عند تسليم التقرير المبدئي، مشيرة إلى أن وزير المالية يؤخر تسديد الدفعة الأخيرة لتجنب الإقرار بتسلمه التقرير المبدئي بشكل رسمي.
وفتح “تغييب” التقرير المبدئي الذي يفترض أن يتضمن نتائج التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان وأنشطته، الاجتهادات والاتهامات بأن هناك نية للتلاعب بمضمونه من خلال حذف بعض الأرقام أو تعديلها.
وفي وقت يرفض وزير المالية يوسف الخليل نفي أو تأكيد تسلمه التقرير، يشير إلى أن العقد يعطي الحق لوزير المال أن يدرس التقرير لمعرفة إذا ما كان تم اكتشاف أي شوائب في حسابات وعمل المصرف المركزي، والأدلة عليها من خلال الأرقام والخلاصات التي يوردها، لافتاً إلى أنه في حال ورد أي شوائب أو ثغرات في عمل مصرف لبنان، يمكن لوزارة المال أن تطلب من الشركة استئناف نشاطها مجدداً من أجل إيضاح المزيد من المعلومات والتفاصيل.
نوعان من التدقيق
وفي المقابل يؤكد مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية، سمير ضاهر، أن التدقيق الجنائي لم يُنجز بعد، كاشفاً عن نوعين من التدقيق، الأول هو “التدقيق الجنائي الذي لا يزال قيد التحضير من قِبَل شركة التدقيق الأميركية، والتي تجري الشركة تدقيقاً مالياً لحسابات مصرف لبنان، والتدقيق إذا كان هناك أي خطأ مقصود في الحسابات أو الأموال الموجودة بشكل خارج عن العمليات الطبيعية التي يتعاطى فيها البنك المركزي”.
أما التدقيق الثاني هو في “الموجودات الخارجية لمصرف لبنان عبر شركة تدقيق أخرى، وقد أُنجز التقرير في شأنه وتم تسليم نسخة عنه لكل من مصرف لبنان ووزارة المال التي لم تنشره حتى اليوم، مرجحاً أن “تكون وزارة المال منكبّة على مراجعته في إطار الأخذ والرّد بينها وبين المدققين، للاستفسار منهم حول بعض النقاط الواردة في التقرير لشرحها وتوضيحها”.
تعاون تام
من ناحيتها تؤكد مصادر مقربة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عدم اطلاعها على مضمون التقرير، مشيرة إلى أنه تم التعاون مع الشركة بشكل مطلق ضمن القوانين اللبنانية، وأنه تم تزويدها بالمعلومات والملفات المطلوبة، كاشفة أنه وبالرغم من إنهاء مدة العقد لا يزال بعض الموظفين التابعين لشركة التدقيق يترددون على المصرف المركزي لطلب بعض المستندات والمعلومات.
وبرأيها لم يظهر التقرير المرتقب أي ارتكابات أو اختلاسات في عمل البنك المركزي، لافتة إلى أنه في حال وجود شائبة بسيطة لكانت تسربت إلى الإعلام، “وتم البناء الكثير من الروايات والتحليلات بشأنها”.
وتوقعت ألا يكون تدقيق “ألفاريز آند مارشال”، مختلفاً عن تقارير شركات التدقيق المحاسبي والمالي المتعاقدة مع مصرف لبنان والتي لم تكتشف أي شوائب وفضائح طيلة السنوات الماضية.
الإفلات من العقاب
وفي سياق الضغط على وزارة المالية وتحت عنوان، “إنهاء مسار الإفلات من العقاب”، وجهت ست منظمات غير حكومية، منضوية في “الائتلاف من أجل المحاسبة وعدم إفلات الجرائم المالية من العقاب”، كتاباً رسمياً إلى وزير المالية يوسف الخليل تطلب منه، عملاً بأحكام القانون رقم 28 تاريخ 10 فبراير (شباط) 2017 (الحق في الوصول إلى المعلومات) وتعديلاته، تزويدها بالمعلومات المتوفرة لديه وأي مستند مفيد من شأنه الإعلام بما هو واقع الحال الراهن بالنسبة لمراحل تنفيذ عقد التدقيق الجنائي.
وأشارت إلى أنه وبموجب العقد، وبعد انقضاء ما يقارب السنة ونصف السنة على توقيعه، لم يُعرف بعد ما إذا كانت قد أنجزت المهمة وقدمت الشركة تقريرها المبدئي لكي يبنى على الشيء مقتضاه، أم أنها غير قادرة وغير راغبة وفي مطلق الأحوال متقاعسة، ويقتضي بالتالي إما تسوية الوضع القائم واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، أو تكليف سواها ضمن ما تجيزه الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء؛ كما وكل ما هو مفيد من معلومات وتفاصيل لهذه الغاية.
خطة “ماكينزي”
وقبيل الانهيار الاقتصادي في لبنان، أبرمت الحكومة اللبنانية في يناير (كانون الثاني) 2018 مع شركة “ماكينزي آند كومباني” الأميركية، عقداً بقيمة 1.3 مليون دولار، لإعداد خطة خلال ستة أشهر للنهوض بالاقتصاد اللبناني، وإجراء دراسة بشأن مستقبل لبنان الاقتصادي.
وبالرغم من إنجاز الشركة الدراسة المطلوبة ضمن المهلة المتفق عليها بالعقد، إلا أنها بقيت حبراً على ورق، ولم تقم أي من الحكومات المتعاقبة بإجراء الإصلاحات الاقتصادية التي تضمنها الدراسة، علماً أن توصيات الشركة نفسها كان لها تأثيرات إيجابية في تطوير اقتصاديات في العالم العربي وتكوينها الرؤى الاقتصادية لعدد من الدول العربية كالبحرين، الإمارات، ليبيا، مصر واليمن.
وفي هذا السياق يؤكد وزير الاقتصاد السابق رائد خوري، إلى أنه أصر حينها على الاستعانة بـ “ماكينزي” لوضع خطة تمنع الانزلاق المالي، لأنه استشرف الأزمة المالية التي وقع فيها لبنان باكراً، متأسفاً لتجاهل الوزراء الذين خلفوه الخطة وعدم اعتمادها.
ورأى أن تلك الدراسة لا تزال صالحة حتى الآن وتتقاطع بشكل كبير مع مطالب صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى أنها تتضمن آلية فعالة لزيادة مداخيل الدولة، إضافة إلى تحديد مكامن الهدر والفساد وكيفية مواجهتها.
وكشف أن التقرير مؤلف من ألف صفحة تتضمن خطة لمواجهة الفساد، كخطوة رئيسية لإعادة النهوض بالاقتصاد، علماً أن لبنان حلّ حينها في المرتبة 43 من بين 180 دولة في “مؤشر مُدركات الفساد لعام 2017 ” الصادر عن “منظمة الشفافية الدولية”.
قرار سياسي
وبرأي أوساط سياسية، فإن الأزمة الاقتصادية في البلاد هي نتيجة طبيعية لغياب المحاسبة والتدخلات السياسية في القضاء، إذ برأيها طالما أن السياسيين هم من يعينون القضاة، لن تكون هناك محاسبة جدية وستستمر سياسة المحاصصة والفساد حتى أجل غير مسمى.
وترى أن القوى السياسية المتحكمة بالقرارات والتي تسمى “المنظومة”، لديها إمكانية تعطيل كل التحقيقات الجنائية وعدم الأخذ باستشارات الشركات الدولية، كونها ممسكة بزمام الأمور في القضاء والأمن والاقتصاد، وبالتالي سيتم إجهاض جميع المحاولات الإصلاحية كونها تتناقض ومصالحها وترسيخ دورها.
وتشير إلى أنه لا يمكن إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية قبل تغيير جزري في التركيبة السياسية للبلاد، وتشكيل حكومة غير خاضعة تقود عملية إصلاحية واسعة بعد أن يتم تشريع قانون استقلالية القضاء، ووقف التدخلات السياسية التي تعيق الملاحقة والمحاسبة.