من وجهة نظر «حزب الله» يستحق جبران باسيل الرجم الذي يتعرّض له. ولا يقلّ ذلك عن الإقتناع الموجود أصلاً عند الرئيس نبيه بري وحركة «أمل». اذ أنّ باسيل وعون تحالفا مع «الحزب» وليس مع «الحركة»، وأنّ بري بقي معارضاً انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وخالفه طوال ستة أعوام من عهده، وإن كان تحالف معه في انتخابات 2018 وانتخابات 2022 النيابية برعاية «الحزب».
التحالف الذي قال عنه عون وباسيل و»الحزب» إنّه حمى لبنان، كان يحمي المصالح المشتركة بينهما. كل منهما كان يريد أن يبقى أميناً له طالما أنّ هذه المصالح مؤمَّنة. كان «الحزب» يعتبر أنّ باسيل لن يخرج عن هذه العلاقة معه لأنّه مقتنع أنه ملجأه الحصين وخشبة خلاصه، وكان يوظّف هذه العلاقة «الدونية» في حربه ضد «القوات اللبنانية» والقوى السيادية المعارضة له. وكان باسيل في المقابل يعتبر أنّه في علاقة متوازية مع «الحزب»، وأنه خشبة خلاصه وحامي ظهره من المؤامرات الخارجية والداخلية، وأنّه صوته حيث لا يكون له صوت، وحامل قضيته والمدافع عن سلاحه. كل ذلك كان من أجل أن يضمن وصول عون إلى رئاسة الجمهورية.
ثمن رئاسة عون لا باسيل
كان المطلوب بالنسبة إلى باسيل وعون أن يستمرّ هذا التعاون من أجل أن يؤمّن «الحزب» وصول باسيل إلى الرئاسة، على قاعدة أنّ التحالف كان مع «التيار» وما يمثّله، وليس مع عون وحده، وأنّ المطلوب أن يقبل «الحزب» بالتالي نقل السلطة إلى باسيل. ولكنّ «الحزب» لم يكن يرى ما يراه عون وباسيل. كان يعرف منذ البداية أنّ له دَيناً على «التيار» ولا دين للتيار عليه، وأنّ الدَّين الوحيد الذي اعترف الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بوجوده كان لعون وقد أوفاه له على رغم أن هذا العبء كان ثقيلا عليه.
عندما التقى باسيل رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية عند نصرالله كان كل منهما يأمل في أن يكون مرشّحه للرئاسة من دون الأخذ بالإعتبار أهمية هذا الموقع وكرامته وما يمثّله. أي منهما كان سيقع الإختيار عليه كان سيرتضي بكل فضل نصرالله عليه. سبق لفرنجية أن نزل تحت سقف رغبة نصرالله باختيار العماد عون رئيساً والتمسك به بين 2014 و2016، ولم يعترض. وكان نصرالله يأمل ألا يعترض باسيل وعون على اختياره فرنجية هذه المرة. ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان. قبل انتهاء ولاية عون كان الخلاف قد بدأ. تقدّم فرنجية واستُبعد باسيل. ولكن باسيل بقي يأمل بتغيير رأي «الحزب» والسيِّد ولكن من دون نتيجة فهذا الرأي لا يتغير بسهولة عندما يكون هناك قرار قد اتُّخذ.
ضيّع باسيل وعون عهدهما الرئاسي وهما يبحثان عن حسن سلوك تجاه «حزب الله» لكي يضمنا استمرار النهج مع الصهر الخلف. ولكن بالنسبة إلى «حزب الله» لم يكن هناك ما يوجب عليه أن يلتزم مع باسيل. كان يريد منه أن يكون أحد اسلحته في المواجهة التي يخوضها مع معارضيه في لبنان بسليمان فرنجية، ولذلك دعمه في انتخابات 2018 وانتخابات 2022 ليس حبّا به، بل حتى لا يتقدّم حزب «القوات اللبنانية» عليه. لذلك بعد الجفاء المستجدّ صار يحسب عليه كم صوت أعطاه وكم نائب أمّن له ليُفهِمه ما هو حجمه عندما يبتعد عنه أو يختلف معه.
خلاف أقل من انتفاضة
خلاف باسيل وعون مع نصرالله ليس انتفاضة داخل «التيار» على النهج السابق بقدر ما هو ردة فعل على تضارب المصالح في السباق إلى رئاسة الجمهورية. فعون منذ انتخابه كان صرّح أنّ باسيل هو أحد أقوى الأحصنة في هذا السباق. وصل عون إلى قصر بعبدا محصّناً بتفاهم واسع مع «القوات اللبنانية»، وكان عليه أن يبدأ انتفاضته منذ تلك اللحظة في 31 تشرين الأول 2016، وأن يعتمد سياسة استعادة الدولة والإبتعاد عن خيار الحزب والدويلة.
بدل أن يفعل مثل هذا الأمر ضيّع عهده باللعب على حبال السلطة والمصالح والتودّد للحزب، والتنازل عن السيادة وعن شعار استعادة الجمهورية، وعن شرعية سلاح الجيش والإعتراف بشرعية سلاح «حزب الله»، وبالحرب على «القوات اللبنانية» لعزلها وإبعادها عن المشاركة في الحكم، خصوصاً مع النهج السيادي والإصلاحي الذي اعتمدته، وكان على العهد أن يعتمده.
كان يكفي أن يقود عون عملية تحرير قرار الشرعية ولكنّه فعل العكس. وكان يكفي أن يتبنّى مطالب ثورة 17 تشرين ولكنّه فعل العكس. باع نفسه للحزب وعندما اقتربت ساعته باعه «الحزب». كانت هناك رئاسة جمهورية ممسوكة باليد مع تفاهم مع «القوات اللبنانية»، وكان يجب استخدام هذه الورقة القوية بخلفية اتفاق أكبر قوتين وكتلتين مسيحيتين بدل وضعها في سوق العلاقة مع «حزب الله» وبيعها له.
اليوم ثمة مشهد مغاير تماماً. يسعى «التيار» من أجل رئاسة جمهورية تبدو كأنها عصفور على الشجرة اسمه جهاد أزعور الذي تبقى معركة وصوله إلى قصر بعبدا فائقة الصعوبة. ويحاول عون مع باسيل طرق أبواب النظام السوري في دمشق من أجل تحصين موقعهما في اللعبة الداخلية من خلال الزيارة التي قام بها عون، وهما يدركان ربّما أن بشّار الأسد لا يمكنه أن يعوّض عليهما سوء علاقتهما مع الحزب وسينصحهما بالوقوف وراء قرار دعم فرنجية.
اللعب داخل ملعب «التيار»بعد الخلاف المستجد يستخدم «الحزب» كل الأسلحة المتوفرة ضد باسيل و»التيار» وصولاً إلى حدّ التخوين والطعن في الصدر واللعب داخل ملعب «التيار» وصولاً إلى محاولة شقّه. هذه المحاولة تقوم على أساس أنّ هناك انتفاضة ضد باسيل تقودها «مجموعة الخمسة»، المكوّنة من النوّاب ابراهيم كنعان، وألان عون، وسيمون أبي رميا، وأسعد درغام والياس بو صعب. الحملة بدأت من خلال اتهام باسيل بأنه لا يمون على كل نوابه، وبأنّ «الحزب» أمّن له الفوز بعدد من المقاعد النيابية من بينها مقاعد المعترضين. ولكن الواقع لا ينطبق على هذا الكلام.
صحيح أنّ باسيل مدين للحزب بالحصول على ستة أو سبعة مقاعد ولكنها ليست المقاعد المرتبطة بالمعترضين. وهؤلاء الخمسة لا يمكنهم أن يقودوا انتفاضة داخل «التيار» وهم ربما قد يكونون أخطأوا في اختيار التوقيت المناسب لاعتراضهم الذي لا يرقى إلى حدود الإنتفاضة. فلو كانت هناك انتفاضة على سياسة باسيل وعلى التوريث في «التيار» لكان عليهم أن يُخرِجوا اعتراضهم إلى العلن عام 2015 عندما تمّ تعيين باسيل رئيساً للتيار ولاذوا بالصمت. أو عندما انقلب باسيل على اتفاق معراب وضحى به على مذبح مصالحه مع «حزب الله» خصوصاً أنّ كنعان كان أحد عرابي هذا الإتفاق.
وربما كان عليهم أيضاً أن يعترضوا في انتخابات 2022 عندما خاضوا المعركة في مواجهات حزبية داخلية مع باسيل حيث الرواية الشائعة تقول إنّه حاول أن يُسقطهم ليتخلّص منهم. اعتراض هؤلاء على خيار باسيل وعون السير بدعم ترشيح جهاد أزعور ليس في مكانه الصحيح ولا يمكن تبريره ولا يؤمّن لهم أي مصلحة حزبية أو سياسية، بل بالعكس يمكن أن يُخرجهم من اللعبة نهائياً. لأن باسيل يمكن أن يستغلّ مسألة مخالفتهم قرار التيار لإبعادهم منه كما أبعد غيرهم.
فإذا كان هناك من يعتبر أنّ بعض المعترضين لا يمكن أن يعارض «حزب الله» لأنّه وصل بالأصوات التي أمّنها له، فإن أيّا منهم لا يمكنه أن يخرج من «التيار» ويترشّح إلى الإنتخابات لأنّ «التيار» هو الذي رشّحهم ولا يمكن أن يترشّحوا مثلاً في انتخابات 2026 لوحدهم. وبالتالي فإن خروجهم من اللعبة الداخلية في»التيار»، الذي لا يزال يحظى فيه باسيل بالرئاسة وبغطاء المؤسّس ميشال عون، يضعهم خارج اللعبة.
وبالتالي من الأفضل لهم أن يبقوا ضمن «التيار» وأن يمشوا بخيار أزعور، وأن يعملوا من الداخل لأنّ الإنتفاضات لا تُخاض بهذه الطريقة، ولأنّ ليس من بينهم قائد ليقود انتفاضة من هذا النوع، والرئيس عون على قيد الحياة. وحتى ليس هناك من هو مؤهّل منهم ليقود مثل هذه الإنتفاضة ولا من بين كل الذين خرجوا من «التيار» وبقوا يمثّلون حالات فردية أكثرها صوتي، ولم يلتقوا ضمن أي إطار سياسي، ولم يؤمّنوا لهم أي قواعد حزبية أو شعبية.
ذلك أنّ معظم الذين ابتعدوا عن «التيار» تشتّتوا بين أهواء شخصية كثيرة. حتى أن الحجّة التي أطلقها هؤلاء لاعتراضهم، والقائمة على أنهم يطالبون بترشيح واحد من التيار، ليست منطقية لأنّ أي ماروني منهم لا يمكن أن يحظى بهذا التكريم داخل «التيار»، ولا يمكن أن يحصل على تأييد من هم خارج التيار. وبالتالي لا يمكن أن يكون الترشيح لمجرد الترشيح فقط لا غير. وعلى هؤلاء أن يعترضوا على محاولة «حزب الله» فرض خياراته على «التيار» وأن يكونوا قوة من أجل تحرير التيار من هذه التبعية للحزب ومنع رئيس «التيار» من أن يعود إلى بيت الطاعة ورفض الإستنجاد برئيس النظام السوري حتى لو كان ميشال عون هو الذي يحاول دعماً لباسيل.