منذ فجر التاريخ، شكّل الساحل اللبناني وجبل لبنان مركز ثقل حضاري وثقافي يندر له مثيل. هنا تتابعت أجيال، وشُيّدت ممالك، وتولّدت أفكار، خلقت هوية ضاربة بجذورها في عمق آلاف السنين، أقدم من أي تقسيم سياسي لاحق.
الفينيقيون… الإرث الأول
من جبيل إلى صيدا وصور، على هذا الساحل قامت الحضارة الفينيقية منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
هؤلاء الروّاد لم يكتفوا بصناعة السفن وتسييرها عبر المتوسط، بل ابتكروا الأبجدية الفينيقية التي مهّدت لاحقًا للأبجديات اليونانية واللاتينية.
صدّروا خشب الأرز، وعقدوا التحالفات، وأسّسوا مراكز تجارية من قبرص حتى قرطاج وإسبانيا.
هنا إذًا، قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، تأسست مدن وحضارة سبقت كل ما جاء بعدها، ولم يكن هناك لا «بلاد شام» ولا أي تصنيف آخر.
جبل لبنان… معقل الحرية والخصوصية
ثم مع انبلاج القرن الرابع الميلادي، بدأ الموارنة يشقّون طريقهم الخاص في هذه الجغرافيا.
أبناء الرهبنة المارونية المستقلة، تركوا السهول المضطربة وصعدوا إلى جبل لبنان ليبنوا مجتمعهم الروحي الحر منذ القرن الرابع، أي قبل ظهور الفتوحات الإسلامية بقرنين كاملين.
في هذه الجبال، صمدوا أمام الاضطهاد البيزنطي، ثم لاحقًا أمام الغزوات الإسلامية والمملوكية والعثمانية.
رسخوا وجودهم السياسي والاجتماعي الخاص، مؤسسين طورًا بعد طور «جمهورية جبل لبنان» التي سبقت أي نموذج وطني حديث في الشرق.
الموارنة… الامتداد العضوي لحضارة الساحل والجبل
إذا كان الفينيقيون أصل هذا الساحل وحضارته البحرية والتجارية، فإن الموارنة هم الامتداد الطبيعي لهذا الإرث في الجبل، حيث أعادوا تشكيل الخصوصية الثقافية والروحية لهذا المكان على مدار أكثر من 1600 سنة.
الموارنة ليسوا ضيوفًا ولا جماعة «لاجئة» كما يلمّح البعض، بل مكوّن أصيل ومتجذّر في هذه الأرض منذ قرون طويلة سبقت الإسلام وسبقت كل الكيانات السياسية اللاحقة.
و«بلاد الشام»؟ مجرّد صياغة لاحقة
مصطلح «بلاد الشام» ليس هوية تاريخية أصلية لهذه الأرض.
هو تسمية إدارية ابتدعها العباسيون ثم العثمانيون لاحقًا لتقسيم ولايات وإخضاع مناطق شاسعة تحت مركز حكم واحد، لا أكثر.
أما جبال لبنان ومدن الساحل، فظلت تحافظ على شخصيتها الحضارية والثقافية المستقلة منذ الفينيقيين مرورًا بالموارنة حتى اليوم.
من الفينيقيين في الساحل، إلى الموارنة في الجبل، تكوّنت هنا هوية أقدم من أي كيان حديث، وأعرق من كل تقسيم لاحق.
حضارة صُنعت بالعرق والدم، حافظت على نفسها رغم قرون الطمس والقمع، ولاتزال حتى اليوم تؤكد بوضوح:
«نحن أبناء هذه الأرض، جذرها وامتدادها…
مراجع :
Glenn E. Markoe — Phoenicians
Maria Eugenia Aubet — The Phoenicians and the West
Josephine Quinn — In Search of the Phoenicians
Kamal Salibi — A House of Many Mansions: The History of Lebanon Reconsidered
Matti Moosa — The Maronites in History
Philip Hitti — History of Syria including Lebanon and Palestine
William Harris — Lebanon: A History, 600-2011