تجمع القيادات السياسية اللبنانية على أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تحولات ومتغيرات استراتيجية كبرى بعد انتهاء حرب غزة، لا سيما أن الساحة اللبنانية هي أكثر من طاولتها ارتدادات تلك الحرب، مع وقوف لبنان على حافة الانخراط بها بسبب الاشتباكات اليومية المستمرة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بين ميليشيات “حزب الله” المدعومة من إيران وإسرائيل.
وما يقلق اللبنانيين أن تلك التحولات تجري في ظل شغور في قيادة الدولة منذ 14 شهراً، فيما يعطي الدستور في النظام السياسي اللبناني دوراً أساسياً للرئيس في قيادة المفاوضات الدولية، إضافة إلى كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، من ثم استمرار الشغور الرئاسي يترك فراغاً كبيراً في اتخاذ قرارات السلم والحرب وجلوس لبنان على طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية لحفظ مصالحه ودوره الاستراتيجي في النظام الإقليمي، إذ تتخوف جهات عديدة أن تختزل إيران دوره عبر استغلال “حزب الله” الفراغ في قيادة الدولة.
ووفق المعلومات، وصلت إلى معظم رؤساء الأحزاب رسائل عربية ودولية تؤكد ضرورة إتمام الاستحقاق الرئاسي بأسرع وقت ممكن وعدم المماطلة، وذلك لسببين، الأول إعادة تشكيل السلطة من خلال تأليف حكومة تتبنى موقفاً رسمياً أمام المجتمع الدولي بتطبيق القرار الدولي (1701) وسحب فتيل التفجير بين “حزب الله” وإسرائيل، والثاني حجز موقع لبنان وضمان مصالحه على مستوى المتغيرات من خلال رئيس وحكومة تحظى بالمواصفات الشرعية، على عكس الواقع الحالي بغياب رئيس وإدارة البلاد من قبل حكومة تصريف أعمال لم تحصل على ثقة المجلس النيابي المنتخب.
توازن سلبي
وبات محسوماً أن التوازن السلبي بين تحالف “حزب الله” النيابي وقوى المعارضة يمنع أحد الفريقين من إيصال مرشحه للرئاسة، مما يحتم العمل على تسوية تؤدي إلى انتخاب رئيس “وسطي” تتقاطع عليه معظم القوى السياسية، وهو أمر ليس سهلاً في ظل الانقسام العمودي الذي تواجهه البلاد، وإصرار “حزب الله” وحلفائه على انتخاب مرشحهم رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، على رغم تراجع المعارضة عن مرشحها الرئيس النائب ميشال معوض وانتقالها إلى دعم مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، بعد التقاطع الذي حصل مع “التيار الوطني الحر” على اسمه.
وفي أكثر من مناسبة طرح اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون كمرشح “ثالث”، والذي أبدت قوى المعارضة قبولها بالتوافق عليه إضافة إلى كتل نيابية وسطية ونواب مستقلين، إلا أن “التيار الوطني الحر” بزعامة النائب جبران باسيل، يضع “فيتو” على وصوله ويخوض معركة سياسية لقطع الطريق أمامه، في حين تشير المعلومات إلى أن “حزب الله” الذي لم يعلن موقفه بشكل علني يميل إلى موقف التيار ويحاول استغلال تشدده تجاه قائد الجيش لاستعادته إلى جانبه في معركة انتخاب فرنجية، علماً أن التيار رفض دعم هذا الأخير سابقاً.
البرنامج الإصلاحي
وفي السياق، يوضح نائب رئيس “التيار الوطني الحر” للشؤون الخارجية الدكتور ناجي حايك، أن المعركة مع قائد الجيش ليست شخصية إنما مرتبطة بأدائه وغياب مشروع واضح في حال وصوله إلى الرئاسة، معتبراً أن جوزيف عون ليس مرشح “تسوية” كونه لا يتمتع بإجماع التكتلات النيابية، ومشيراً إلى وجود أسماء كثيرة من الممكن أن تكون “وسطية”، وأن المهم بالنسبة إلى التيار هو البرنامج السياسي والإصلاحي وليس الاسم بحد ذاته، من ثم لا يمكن حصر موقع الرئاسة حالياً باسم شخصية معينة.
وأضاف حايك أن “هناك حديثاً عن أن رئيس مجلس النواب نبيه بري قد يدعو إلى جلسة تشريعية قبل الـ15 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري لتشريع قانون التمديد لقائد الجيش، ونحن بانتظار إذا ما كان سيدعو إلى الجلسة ومن سيشارك فيها، كونها الحل الأوحد المتبقي للتمديد في ظل عدم قانونية التمديد عبر الحكومة”.
ثلاثة ملفات
في المقابل، رأى مسؤول التواصل في حزب “القوات اللبنانية” شارل جبور، أن في لبنان هناك ثلاثة ملفات أساسية مطروحة، أولها التمديد لقائد الجيش وهو داهم بسبب قرب انتهاء ولايته. وأوضح جبور أن موضوع المؤسسة العسكرية أساس من منطلق أن لبنان في وسط حرب، وهناك شخص متمرس في القيادة العسكرية فيما لا يحق لأحد أن يعين قائد الجيش إلا رئيس الجمهورية، و”هذا وضع دائم انطلاقاً من أن آخر عمود للاستقرار في لبنان هو الجيش اللبناني”.
وأشار جبور إلى موقف بكركي (مقر البطريركية المارونية في لبنان) الدافع بقوة باتجاه التمديد لعون، فضلاً عن موقف “القوات” ومعظم القوى السياسية باستثناء “التيار الوطني الحر” الذي يخوض المعركة ضده لاعتبارات “شخصية معروفة ومكشوفة” ويسانده فيها “حزب الله”، من ثم المعركة تسير باتجاه التمديد عبر المجلس النيابي إلا في حال حدوث مفاجأة.
أما الموضوع الثاني، بحسب جبور، فيختص بالقرار (1701) الذي يبرز بصورة واضحة الاهتمام الدولي الكبير لجهة تطبيقه الفعلي من دون أي تعديل، و”حزب الله” وافق عليه عام 2006، وهذا شأن لبناني لحماية البلد وأمر أساس يشغل المجتمع الدولي في ظل حرب غزة.
والموضوع الثالث في رأيه هو المتعلق بالرئاسة، ومن يحول دون الوصول إلى تسوية على “الخيار الثالث” هو “حزب الله”، ومن ثم عملية البحث في الأسماء كلها تفصيل، حسب جبور، معتبراً أنه يجب بداية القبول بالمبدأ (التوافق على مرشح وسطي) عندها يسار إلى الحديث عن الأسماء والاقتراحات، “لكن يبدو للأسف أن المبدأ مرفوض عند الحزب، لذا لا يمكن البحث في الأسماء حالياً”.
وقال جبور “نحن ليس لدينا إشكال مع الخيار الثالث، طبعاً ضمن مواصفات سيادية إصلاحية خصوصاً مع تداعيات حرب غزة وقواعد الاشتباك التي رسمها حزب الله وضرورة وجود رئيس يغطي مشروع الدولة والقرارات الدولية واتفاق الطائف والدستور، وليس أن يغطي الواقع اللاشرعي في لبنان، والحزب يحول دون الوصول إلى هذا الخيار، لأنه يعتبر أنه في حال ربح خيار المحور الإيراني في المنطقة وتحديداً في غزة، عندها يمكن أن يفرض مرشحه الأساس، من ثم الخيار الثالث حاصل عليه متى شاء، لهذا يحول دونه في الفترة الراهنة”، كاشفاً عن أن موضوع الرئاسة اليوم لا يطرح بالأولوية الخارجية والداخلية.
ابتزاز سياسي
من جانبه يشير المحلل السياسي علي الأمين إلى أن هناك مواصفات بحسب التوازن السياسي القائم في لبنان، والمرشح الذي يمكن أن تقبل به قوى “الممانعة” وقوى “المعارضة” بمجملها فضلاً عن بقية النواب، يجب أن يكون شخصية توافقية حتى الآن. وقال “ربما هناك أسماء عدة تنطبق عليها هذه المواصفات، ويبدو أن العنوان الأبرز لعملية قبول برئيس للجمهورية ليس بما يمثله من إرادة سياسية أو رؤية أو تصور منهجي لمعالجة الأزمة، بقدر ما هو أن يكون مقبولاً من القوى المتعددة”.
وأسف الأمين إلى أن هذا النمط من الاختيار سيؤدي بطبيعة الحال إلى اختيار شخصية يعتبرها الفرقاء الفاعلون في الساحة اللبنانية وخصوصاً فريق “الممانعة” “طيعة” ولا تشكل إزعاجاً لمساره ولسطوته على الدولة.
وأضاف “واضح أن اللجنة الخماسية (تضم فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر) تتابع الملف اللبناني، لكن أيضاً يجب الإشارة إلى أن تطورات الحرب في غزة أعادت هذا الملف إلى الوراء، ولكن أعادت الزيارات التي قام بها مسؤولون أميركيون وفرنسيون إلى لبنان إحياءه نسبياً، مما يعكس أهمية أن ينجز لبنان استحقاقاته ليقابل المشهد الإقليمي بتماسك أكبر وبموقف أكثر قدرة على تثبيت مصالحه على المستوى الإقليمي وتحديداً في ما يتصل بجنوب لبنان”.
وبين الأمين أن خيار قائد الجيش كان العنوان الأبرز للخيار الثالث في مسألة رئاسة الجمهورية، لكنه أيضاً ربما يتعرض لعملية ابتزاز لإضعافه وهذا ما يحصل لجهة التمديد له أو تأجيل تسريحه، أي المخرج الذي يمكن أن يؤدي إلى بقائه في موقع قيادة الجيش في الظروف الراهنة، لا سيما أنه حتى الآن هو العنوان الأبرز كمرشح للخيار الثالث على مستوى رئاسة الجمهورية.
ويتخوف الأمين أن يأتي رئيس الجمهورية العتيد بعد انتخابه مقطع الأوصال أو عاجزاً عن القيام بخطوة فعلية وجدية في مواجهة الأزمة القائمة، خصوصاً أن لبنان لم يعد يحتمل وصول رئيس يدير عملية تعطيل أو عاجز عن القيام بأي مبادرة نوعية تسهم في إخراج البلد من النفق الذي هو فيه.