هل تكون المحاولةُ الفرنسيةُ الجديدةُ لتوفير إطارٍ لبناني «مُراقَب» خارجياً للأزمة الرئاسية المُسْتَحْكِمَةِ هي الأخيرة قبل انتقال دول الرعاية لواقع «بلاد الأرز» إلى «الإجراءات» (العقابية) بحق معرقلي هذا الاستحقاق الدستوري الذي يُعتبر مفتاح وضْعِ الوطن الصغير على سكةِ نهوضٍ يتطلّب مساران متلازمان، سياسي ومالي؟
هذا السؤال الكبير خيّم على بيروت في اليوم الثاني من زيارةِ الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان الذي يستكمل لقاءاته مع كل الطيف السياسي في لبنان الذي كان أمس عيْناً على مَهمة الممثل الشخصي للرئيس ايمانويل ماكرون التي تأتي جولتها الثانية (بعد محطة يونيو الماضي) مدفوعةً من ثوابت أرساها اجتماع «مجموعة الخمس» في الدوحة (في 17 يوليو)، وعيْناً أخرى على الغيوم السود التي تتلبّد في سماء الواقع النقدي وامتداداته قبل 4 أيام من انتهاء ولاية حاكم البنك المركزي رياض سلامة وهو التاريخ الذي تتعاظم الخشيةُ من أن تنتقل بعده البلاد إلى مرحلة من الفوضى التي تؤشر إلى «خريف مخيف»، فإما الانفراج «القيصري» وإما الانفجار… الكبير.
وبعدما كانت المعطيات حول زيارة لودريان تشي بأنه لا يحمل شيئاً محدداً، فإنّ ما تَكَشَّف عن محادثاته التي يختتمها اليوم أشارت إلى أنه أتى بفكرة قيل إنها تنال دعم شركاء فرنسا في «مجموعة الخمس» (الولايات المتحدة، السعودية، مصر وقطر) وتقوم على إجراء محادثات أو مشاورات في سبتمبر المقبل وضمن «فترة زمنية سريعة ومحددة» بين الأطراف اللبنانيين وفق جدول أعمال من بند واحد هو رئاسة الجمهورية، برنامجاً وبروفايل، كمقدّمة لجلسات انتخاب متتالية في البرلمان.
وبدا من هذا الطرح أنه على طريقة «السبحة الواحدة»، وأن حظوظ دخوله حيز التطبيق تتوقف على موافقة كل الأطراف على سياقه كاملاً ولا سيما في ما خص الجلسات المتتالية التي لطالما أصرّت عليها قوى المعارضة في معرض رفْضها تطيير فريق «الممانعة» (بقيادة حزب الله) نصاب الدورة الثانية (وهو ما تكرر في 12 جلسة انتخابية منذ أواخر سبتمبر 2022)، وسط التباسٍ تسبَّب به كلامٌ نَقَلَ عن لودريان أن «المشاورات هي للاتفاق على البرنامج الذي يحتاجه لبنان وعلى اسم المرشح المؤهّل لحمل هذا التصور، على أن يلي ذلك عقد جلسات برلمانية متتالية» كما جاء في بيان صدر عن «التيار الوطني الحر» بعد استقبال رئيسه جبران باسيل الموفد الفرنسي.
ومردّ الالتباس أن التوافق على اسم المرشّح يناقض الحاجة إلى جلسات متتالية يتطلّبها وجود أكثر من مرشح، وهو الأمر الذي يفترض أن تتبيّن دقائقه في الأيام المقبلة بعد أن تدرس مختلف الأطراف ما وصفه التيار الحر بأنه «فكرة جديدة مدعومة من الدول الخمس التي اجتمعت أخيراً في الدوحة ومنطلقاً جديداً لمقاربة الملف الرئاسي أبدى رئيسه تجاوباً معه».
وفي التمعّن بطرح لودريان، يتّضح أنه يراعي خريطة الطريق التي رسمها اللقاء الخماسي في الدوحة الذي كرّست خلاصاته أن الحلّ في لبنان وعبر الآليات الدستورية وبعيداً من «حوارات السلّة» أو طاولات مقايضاتٍ أو ضماناتٍ قد تجرّ إلى مزيدٍ من قضْم توازنات جمهورية الطائف ولو على شكل «تعديلات جينية»، مع رفْع عصا العقوبات على معرقلي الانتخابات الرئاسية.
ووفق أوساط سياسية فإن هذا ما يفسّر تفادي لودريان بنسخة ما بعد اجتماع الدوحة استخدام كلمة حوار، ومحاولة حصْر المشاورات المفترضة بمدى زمني محدّد مسبقاً وبـ «خط نهاية» مُرَسَّمٍ سلفاً على قاعدة فتْح البرلمان لجلساتٍ لا تُقفل إلا بعد «إنجاز المهمة»، معتبرة أن الكلامَ عن برنامج الرئيس وبروفايله قبل إسقاط الأسماء أو الاسم المرشح يعني حُكماً كما قالت النائبة ندى البستاني (حضرت لقاء باسيل مع لودريان) «ان المحادثات ستبدأ من الصفر أي من دون طروحات مسبقة» في إشارةٍ إلى أن مرحلة مرشّح «الممانعة» سليمان فرنجية الذي سبق أن تبنّته باريس طُويت وكذلك ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور من تقاطُع غالبية المعارضة والتيار الحر، وتالياً ثمة محاولة للالتفاف على رفْض الطرفين التخلي عن مرشحيْهما كمدخل لأي نقاش عبر جعل برنامج الرئيس أولوية التشاور الذي قد يفتح الطريق على المرشّح الثالث.
وإذا كان هذا الطرح يعكس تراجعاً فرنسياً إضافياً عن طرح الحوار حول سلّة مرتبطة بالملف الرئاسي الذي سعى لودريان لتأمين توافق عليه خلال زيارته في يونيو الماضي واصطدم برفْض داخلي وخارجي، وذلك بعدما كانت باريس تراجعت عن مقايضة فرنجية مقابل رئيس حكومة محسوب على خصوم «حزب الله» (طُرح اسم نواف سلام)، فإن الأوساط السياسية تُبْدي شكوكاً في إمكان نجاح الفكرة الجديدة التي رَبَط معارضون التقاهم الموفد الفرنسي وبينهم أمس رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع موقفهم منها ببحثها حزبياً ثم مع سائر أطراف المعارضة وبتقليب أدق تفاصيلها ومآلاتها لجهة اقتياد الجميع الى كلمة فصل تحت قبة البرلمان، في حين ستبقى الـ «نعم» أو الـ «لا» بإزائها من الممانعة ولا سيما «حزب الله» مرهونةً بتبيان حدود الإصرار على الجلسات المتتالية وإذا كانت المشاورات محكومة بالتوافق خلالها على اسم المرشح – الرئيس، علماً أن الحزب والرئيس نبيه بري لطالما طالبوا بحوارٍ حول الملف الرئاسي بلا شروط مسبقة وبطبيعة الحال بلا… نهاياتٍ محتّمة.
وثمة مَن تعاطى مع تحديد سبتمبر موعداً لعودة لودريان لرعاية المشاورات المفترضة على أنه بمثابة إعطاء مزيد من الوقت لقوى الداخل لترتيب أوراقها، وضمناً لانقشاع الرؤية أكثر في ملفاتٍ يرتبط بها الواقع اللبناني عبر «الأوعية المتصلة» وبينها المفاوضات حول النووي الإيراني وعناوين أخرى، في ظلّ مخاوف كبرى في بيروت من أن تكون البلاد انتقلت في الطريق إلى سبتمبر إلى مرحلة العصف الأكثر التهاباً للوضع النقدي والمالي والمعيشي والتي قد تساهم في تحديد مواصفات الرئيس المطلوب، ولا سيما في ضوء التخبط الكارثي الذي يطبع إدارة ملف انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان الذي بدا أن إمكانات اجتراح «ألاعيب» لتمديد تقني له في منصبه تلاشت مع تقارير عن أن لودريان وعواصم غربية عدة أبلغت المعنيين في لبنان بأن استبقاءه في موقع رغم الملاحقات القضائية سيشكل إشارة بالغة السلبية.
وفي هذا الإطار ازداد حبْسُ الأنفاس بإزاء ما بعد الأول من أغسطس، خصوصاً في ظل حسْم ان الجلسة التي دعا إليها الرئيس نجيب ميقاتي لتعيين حاكم جديد صارت بحكْم «الميتة»، وسط توالي إعلان وزراء رفضهم المشاركة في هذه الجلسة التي صارت أمام احتمال راجح بعدم توافر نصاب انعقادها من أصلها، وإذا التأمت فهي بالتأكيد لن تعيّن حاكماً رغم التداول بأربعة أسماء مقترحة، وذلك في ضوء استحالة توفير غالبية الثلثين واعتراض «حزب الله» الثابث على مثل هذه الخطوة. علماً أن ثمة مَن يعتبر أن تطيير الجلسة من أساسها قد يكون أفضل من تظهير افتراق الثنائي الشيعي (الحزب والرئيس نبيه بري) على طاولة مجلس الوزراء مع ما قد يثيره هذا الأمر من حساسياتٍ متعددة البُعد.
وفي الإطار، اعتبرت دوائر مراقبة أن وزيريْ تيار المردة بقيادة فرنجية وبمجاهرتهما بعدم حضور الجلسة، إنما يراعيان ألا تصيب تشظيات ولو مجرّد حضورهما زعيم «المردة» بمزيد من الاضرار مسيحياً، في حين اعتُبر اعتراض وزراء آخرين في سياق استشعارهم بأنهم يُستدرجون إلى «مركب مثقوب» عمْداً لإغراق هذا الملف بمناوراتٍ على طريقة «نفْض اليد» مما سيكون مع انتهاء ولاية الحاكم ورمي كرة المسؤولية على مَن عطّلوا التعيين وفي الوقت نفسه التمهيد لاستقالةِ أقله نائب الحاكم الأول وسيم منصوري (شيعي).
وسادت علامات استفهام أمس حول إذا كان تريث اثنين على الأقل من نواب الحاكم الثلاثة الآخرين في الجزم باستقالاتهم سيخلط الحسابات بالنسبة إلى منصوري ومرجعيته السياسية (الرئيس بري) التي تفضّل أن لا يتحمّل الأخير «بصلاحيات كاملة» – وإن بالوكالة – مسؤولية «كرة النار» المرشّحة أن تتفجر أكثر نقدياً بحيث تكون الاستقالة بمثابة حماية ولو نسبية في ضوء ترقُّب تكليفه (وأي نائب حاكم آخر يحذو حذوه) الاستمرار بتسيير المرفق العام.
وفي موازاة ذلك، لم يكن ممكناً تبيان الآثار السياسية التي قد تترتب على إعلان المكتب الإعلامي لوزير العدل (محسوب على التيار الحر) أن الوزارة «تتحضّر للتقدم بطلب تسمية مدير موقت لدى قضاء العجلة الإداري أمام مجلس شورى الدولة، وذلك في ضوء ما يمكن أن يستجد من تطورات خلال اليومين المقبلين، وتفادياً لأي فراغ يصيب مركز حاكمية مصرف لبنان، وتأميناً لسير المرفق المالي والنقدي»، علماً أن التيار لطالما اعتبر أن المخرج بعد انتهاء ولاية سلامة يكون، إما بتعيين حارس قضائي (لا تتوافر طروفه القانونية) أو «حارس إداري».
ومجمل هذه التطورات تجعل الأيام الفاصلة عن الاثنين المقبل، محمومة، علماً أن لقاء ميقاتي بنواب الحاكم الاربعة أمس لم يحمل جديداً على صعيد طمأنتهم إلى إمكان توفير ضمانات قانونية لمضيّهم في إقراض الدولة مما بقي من احتياطي إلزامي ولتأمين خروج متدرّج من منصة صيرفة بصيغتها غير الشفافة، كما يقولون، القائمة حالياً.
ويُنتظر بعد جلسة الحكومة اليوم أن تتضح الصورة أكثر بالنسبة للخطوة التالية لرباعي نواب الحاكم، أو قسم منهم ولا سيما منصوري، فهل يعلن استقالته ولو من خارج قرار جَماعي؟ وهل يفعل ذلك قبل الاثنين؟