سلام محمد الصغير (اخصائية نفسية) - اللواء
في ظل الأزمات المتتالية والانهيارات التي يشهدها لبنان حالة من الدهشة تصيب علماء النفس، محللين، معالجين وأخصائيين وأسئلة عدّة تطرح نفسها حول «حالة « الشعب اللبناني وما «يسلُكَه» أمام كل ما يواجهه من تغيرات جذرية في نمط المعيشة. فلا الليرة بقيت على حالها أمام الارتفاع الجنوني للدولار ولا الحاجات الغذائية ولقمة العيش باتَ تأمينها أمراً مقدوراً عليه يقتصر على الراتب الشهري وحتى الكهرباء والماء والدواء بات وجودهم نادراً والحصول عليهم يتطلب تكاليفاً باهظة الثمن.
وما من أحدٍ يثور أو حتى يعترض إلاّ في حالاتٍ نادرة نراها تتصرف بطريقة غير طبيعية و إن كانت محقّة! كالذي يحاول حرق المصرف وآخر يُضرب عن الطعام وتلك التي تتخلّى عن شعرها لتبيعه وتصرخ بأعلى صوتها « بدي طعمي أولادي!» فماذا عن بقيّة الشعب؟! أهل ما نشهده , صمودٌ وقوّة جبّارة أمام بطش الحكّام او (ساديّة الحكام) أم أنه «حالة» من التكيف النفسي» وصلت بالناس إلى حد الخضوع والقبول بالإذلال والتلذُّذ به أيضاً؟!
أخذ علماء النفس مفهوم التكيّف من علماء البيولوجيا فبعض الحيوانات من أجل التأقلم مع بيئتها الطبيعية كانت تغيّر لون جلدها بحسب المكان التي تتواجد فيه، كذلك الإنسان فإنّه يبحث عن شتى الوسائل لاشباع حاجاته وإن لم يجدها فإنّه يعمل إما على تعديل بيئته والظروف المحيطة به أوعلى تعديل حاجاته الخاصة وهذا ما يسمّى بالتكيّف (adaptation/دارون).
أمّا من المنظور النفسي، فإنّ إقامة علاقة منسقة مع البيئة الخارجية تتطلب تغييراً في السلوك ومواجهة للمتطلبات الحياتية وهذا ما يسميه علماء النفس «بالتوافق» (ajustement). إنّ العلاقة بين التوافق والصحة النفسية علاقة وطيدة فالإنسان والبيئة الخارجية «متغيران» ولذلك يتطلب كل تغيير تغيراً مناسباً لاستمرار واستقرار العلاقة بينهما وهذا التغيير هو «التكيّف» بينما العلاقة المستمرة بينهما هي «التوافق»
نستفيد من ذلك لنلقي الضوء على سلوك «اللبناني» اليوم أمام التّغيرات في المعيشة إذ بات واضحاً أن اللبناني اليوم يمر في حالة «تكيُّف» مستمرّ لا وبل مبالغ به وليس في حالة «توافق» أبداً ذلك لأنه كل ما حاول أن يتكيّف مع الظروف المعيشية الصعبة كلما تغيرت هي وتفاقمت أكثر فأكثر...
وإذا ما حاولنا قراءة عملية التكيّف هذا لدى اللبناني اليوم سنلحظ أنّ المسألة ليست من باب التكيّف النفسي بل هي أقرب إلى نوع من الخنوع والشواهد على ذلك كثيرة نذكر منها :
1- الاستمرار في شراء المواد الغذائية رغم ارتفاع أسعارها وكلما ارتفع السعر زاد الطلب عليها و لم يفكر أحد في مقاطعتها.
2- الحاجة إلى المياه الساخنة خلال البرد رغم ندرتها بسبب غياب الكهرباء التام دفع البعض نحو الاستعانة بوسائل تدفئة تعود إلى زمن السبعينات والثمانينات ومن بينها موقد الكيروسين أي (بابور الغاز). ولاشعال الحطب أيضاً
3- الأزدحام في محلات الصيرفة عند ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة والامتناع عن ذلك عند انخفاضه.ما يعني مشاركة الناس في لعبة خطرة ضد مصلحتهم .
4- ترتيب الأمورالحياتية بحسب دوام الكهرباء والاستمرار بالعمل حتى أثناء إنقطاعها ، حتى في المدارس شهدت على استخدام المعلمين لقصاصات ورقية خلال شرح الدروس المواد العلمية عوضاً عن اللوح الذكي لأنه لا توجد الكهرباء في المدرسة.
5- سلوكيات غير مقبولة اجتماعياً مثل السرقة ، إنّ سرقة خط كهربائي من الجيران بات أمراً مقبولاً لمن لا يستطيع دفع فواتير الاشتراك مقابل تمادي اصحاب المولدات في رفع أسعارها بحسب سعر صرف الدولار!
6- السيارات، نفس المشهد كل يوم صباحاً أمام محطات البنزين وقبيل دوام العمل بساعات، بدلاً من أن نشاهدها تقطع الطرقات اعتراضاَ على هذا الإذلال اليومي !
7- لجوء الناس إلى المستوصفات للحصول على بدائل لأدويتهم، والقبول بالانتظار في الطوابير لساعات.
8- عدم الكف عن انتقاد الدولة وشتم المسؤولين والتجار والقاء اللوم عليهم باستمرار من دون أن يحرك أحدهم ساكناً.
إن مفهوم التكيّف يشكل قاعدة ضرورية عند كل من الإنسان والحيوان والنبات للتأقلم مع البيئة التي يعيش فيها كل كائن ، وقد يؤدي إلى تحولات في كيانه لمواجهة المشكلات والصعوبات المستجدة عليه،أما ما نراه اليوم ونلاحظة عند عموم الشعب اللبناني فقد تخطّى مفهوم التكيّف وبات بعيداً كل البُعد عن «التوافق» . إنّه أقرب إلى حالة من الاستسلام التام واليأس والقبول بالذل والخضوع لما تفرضه علينا السلطة وقد ذكرنا في مقالة سابقة أنّه عندما تكون السلطة الحاكمة «نرجسية» ولديها ما يكفي من الساديّة فلا بد في المقابل أن يُصاب البعض من الشعب «بالمازوشيّة».
والمازوشية هي اضطراب نفسي عوارضه ليست بكثيرة إنّما يكفي أن يظهر عارض واحد من عوارضها كي تُشخَّص... وهي قبول الألم والتلذذ به، وقبول تلقي الإهانة من الشخص الآخر والخضوع لرغباته وأوامره مهما كانت قاسية... أفليس هذا هو حالنا كلبنانيين اليوم؟!